الملحق الثقافي – فاتن أحمد دعبول:
لا شيء ثابتاً في الحياة، العالم جميعه بات قرية صغيرة، ووسائل التواصل الاجتماعي باتت هي الأقوى في التأثير، وربما هي من تصنع الحدث .. هذه المقولات وكثير غيرها بدأت تحتل مكانتها في الحوارات إن كان على صعيد العلاقات الفردية بين العائلات والأصدقاء، أو ربما تمتد لتطول العلاقات الرسمية في غير جهة وغير مجتمع.
وتأتي النتائج لتعلن وبالخط العريض»سقى الله أيام زمان» وأين نحن من الزمن الجميل وتسيد العلاقات الإنسانية التي تربطها أواصر المحبة، وتحكمها القيم والعقيدة الصادقة والإيثار والتكافل الاجتماعي؟
وهنا لابد أن نتوقف ملياً عند هذه التطلعات إلى ما قد مضى من الزمن، بدل التطلع إلى المستقبل والتفاؤل بالقادم من الأيام، لكن يبدو أن ثمة خللاً قد طرأ في المجتمعات، أدى بدوره إلى هذه النظرة التشاؤمية تجاه الواقع والمستقبل في آن معاً.
ولو استندنا في مقالنا هذا إلى تلك الأبيات التي رسمها لنا الإمام الشافعي، ويضع فيها يده على الحقيقة المريرة التي يعيشها الناس، ولكن لا يدركون أن المجتمعات ليست هي التي تبدلت وتغيرت، بل نفوسنا التي أتعبتها السنون، يقول:
نعيب زماننا والعيب فينا، وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب، ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب، ويأكل بعضنا بعضا عيانا
إذا فالزمن الذي نعيبه، يصنعه البعض منا، والزمان بريء من تلك التهم، ولا ذنب له، بل اختلفت مفاهيم الناس مع تطور المجتمعات واحتياجاتها من جهة، وبسبب الحروب والأطماع الاستعمارية من جهة أخرى، فتعرض الكثير من الدول للأزمات والحروب والأوبئة، انعكس سلباً على اقتصادها وبدوره على القيم والمفاهيم التي كانت تحكم علاقات أفرادها.
وبدهي أن نعرف أن الإنسان يتكيف مع البيئة المحيطة به بشكل تلقائي، راضياً أو مرغماً، لأن التكيف عامل أساس من عوامل الصراع من أجل البقاء، وهنا حاول العلماء رصد الأسباب التي تؤدي إلى تغير المفاهيم لدى أفراد مجتمع ما، فكان أن وقفوا على عاملين اثنين، الحاجات الضرورية التي يتطلبها الإنسان من أجل تأمين حياة تليق به، وعوامل نفسية وهي التي تحرك الأوليات التي كانت سائدة إلى الهامش، وتدفع ببعض الأمور الإضافية والهامشية إلى المركز.
ولا يمكن تجاهل دور وسائل التواصل الاجتماعي التي أظهرت إلى السطح الكثير من المفاهيم السطحية، وساهمت بشكل سلبي في تغيير الكثير من المفاهيم لدى الجمهور المتابع، من مثل» أن المعلومة الحقيقية لم تعد هي الهدف والتي يجب أن يكون لها الأولوية، بل عدد» المتابعين، وعدد المشاهدة» هي المعيار الأول لقيمة ما ينشر على الصفحات الزرقاء، وهذا بدوره أدى إلى ظهور عدد من الأشخاص المتطفلين على عالم الأدب والفكر والفن، ودخولهم ميدان الثقافة، ليس بكفاءتهم، بل بعدد متابعيهم، وعدد»الإعجابات» التي نالها بغير وجه جدارة أو كفاءة، أو علم.
وفي السنوات الأخيرة نجد تبدلاً كبيراً في تداول القيم والمعايير الحقيقية التي تحكم العلاقات الإنسانية، فلطالما كانت الكتب المدرسية والمؤسسات التعليمية تكرس لدينا الكثير من القيم، كقيمة العلم والقراءة، واحترام الكبير والعطف على الصغير، وإغاثة الملهوف ومساعدة الفقير، والوقوف مع الجار في أفراحه وأتراحه، هذا إلى جانب مساعدة التجار للفقراء والمحتاجين، فأين نحن من هذه السلوكيات التي كانت تحكم المجتمعات، وتزرع في النفوس المحبة والسكينة والأمان النفسي والروحي.
وإن قال قائل إننا لسنا في المدينة الفاضلة، أقول نعم، ولكن من الأهمية بمكان أن تقوى عرى العلاقات في الملمات والأزمات والحروب، بينما ما نشاهده في الواقع، عكس ذلك تماماً، فقد تبدلت نفوس البشر وتحول بعض تجارنا إلى سرقة لقمة عيش أبناء جلدتهم، في احتكارهم للمواد الأساسية ورفع أسعارها، فهل هذا من القيم والمفاهيم الإنسانية التي تربينا عليها، ولطالما تغنينا بها؟
وما يثير العجب أن هؤلاء أنفسهم نراهم يطلقون الشعارات الطنانة في الانتماء للوطن والعمل من أجل تطوره، ويستمرون في الحديث عن إنجازاتهم ويتحسرون على الماضي الجميل وأمجاد الأمس، لكن تفضحهم تصرفاتهم في ميادين الواقع، فأين هم من تلك القيم والمعايير الإنسانية الحقيقية؟
وفي الوقت الذي يجمع فيه المفكرون وعلماء الاجتماع على أن ثقافة المجتمع وقيمه هي التي تشكل هويته، نجد الكثير من فئات المجتمع تسعى إلى الخروج من عباءة مجتمعها، ظناً منها أنها تسعى إلى التغيير والتطوير، تقلد هذا الفنان في لباسه وتسريحة شعره، وتقتدي بذاك اللاعب الرياضي في عنصريته، وتتمثل ذاك السلوك غير اللائق من أحد نجوم هوليود، ظناً منهم أنهم بذلك يحققون انتصارات على بيئتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ولكن عندما يتمرد المرء على جذوره، وينسلخ عن مجتمعه، يصبح ريشة في مهب الريح، فما هكذا تورد أكاليل الغار.
وللأسف ندرك هنا أن التغيير ليس هو دائماً نحو التقدم، فقد يكون أيضاً باتجاه التراجع والتقهقر، وهذا يحتاج بناء جديداً لمعنى تمثل المفاهيم الإيجابية لدى الأجيال وخصوصاً من عاش منهم في ظروف الحرب القاسية، وذاق مرارة التهجير والفقد وعدم الاستقرار.
والجميع يدرك ما تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي من دور في تشكيل وبناء شخصية هذا الجيل الذي انفتح على عالم التكنولوجيا بأبوابه الواسعة، حتى باتت جزءاً أساسياً من حياته، تؤثر على شخصيته وثقافته وسلوكه اليومي.
ونصل إلى نتيجة صادمة، بأن المفاهيم التي كانت سائدة والتي كانت تعتبر»تابوهات» لم تعد ثابتة، ولم تعد مقبولة عند غير فئة من المجتمع وخصوصاً فئة الشباب، ويمكن التخلي عنها بأي وقت، وهذا بدوره يؤدي إلى فقدان جزء من الهوية.
ونحن نرى كيف تزداد الحياة تعقيداً يوماً بعد يوم، وبالمقابل فنحن ندفع قيمنا وعلاقاتنا الاجتماعية وهويتنا ثمناً لما نطلق عليه تغيراً وتقدماً، وما أحرانا أن نتمسك بثوابتنا، قبل أن نصبح كقشة تذروها رياح عاتية.
رقم العدد 1097
التاريخ: 31/5/2022