جان جينيه.. إبداع الجنون

الملحق الثقافي – دلال ابراهيم:

ما الذي حدث قبل ؟ وما الذي حدث بعد ؟ سؤالان يُطرحان حول حياة كلّ كاتب . أي حياته قبل نشر أول عمل له وما حدث لأعماله بعد وفاته. ولكن مع الكاتب الفرنسي جان جينيه يكتسب السؤالان معنى آخراً ، نظراً لأن قضية عدم معرفة هوية أبيه، وقد تمّ الكشف عن هويته منذ عهد قريب – يدعى فريدريك بلان – ووجود أخ غير شقيق له ليست هي النقاط السوداء الوحيدة في حياة كاتب عشق الغموض بعد أن اضطر عليه. إنما كلمة ( حرية ) التي التصقت به بفضل عرابه الاشكالي جان بول سارترالذي شبهه بالقديس ( القديس جينيه الممثل والشهيد ) هي على الأرجح إحدى الكلمات المناسبة لوصف حياته .
وقد حاول العديد من الكتّاب ومنهم البير ديتشي، باسكال فوشيه وادمون وايت تسليط الضوء على حقبة طويلة من حياة الكاتب تمتد من طفولته في منطقة مورفان ولغاية نشر قصائده الأولى والتي كتبها في السجن – محكوم اعدام – ( 1942 ) من خلال طرحهما نسخة مستفيضة وبعنوان آخر لكتابهما ( بحث في التسلسل الزمني) بالنسبة للكاتبين ديتشي وفوشيه. فيما استفاد ادمون وايت في كتاب صدر له تناول فيه السيرة الذاتية لجينيه من هذه البحوث والدراسات الأساسية والتي أوضحت وأكدت على معلومات لم تكن غير موجودة فحسب ، وإنما اتسمت في بعض الأحيان بالغموض، والتي تبعثرت وتوزعت في الأعمال التي سردت قصة حياة جينيه تناولها بنفسه مثل : ( يوميات لص ، سيدة الأزهار ) وتغطي تلك الروايات الأعوام الأولى من حياته .
بعد أن تخلّت عنه والدته كاميل غابرييل جينيه بسبب إمكانياتها المادية الصعبة وليس بسبب فتور عاطفتها تجاهه، عاش جينيه في كنف عائلة من مقاطعة برغونيا الفرنسية محاطاً بالمحبة والحنان والاحترام التي لم يكترث بهما الكاتب . حيث أمضى جزءاً كبيراً من مرحلة مراهقته إما مثابراً على الهرب أو في الإصلاحيات بتهم السرقة والتي أدت ، إن صح القول ، إلى طمس أو بالأحرى تحريف مرحلة طفولته . وقد أظهر جان جينيه السارق والمارق منذ وقت مبكر ميولاً أدبية . وبرز ذكاءه في بيئة قروية معتادة على إيواء أطفال فظين تخلى عنهم أهلوهم . ومن خلال تميزه بأصالته وأساليبه المؤثرة سرعان ما بدأت تتشكل لديه حلقات رحلته الجهنمية في الهروب والسرقات والخضوع للمراقبة والجيش . تلك الفصول جميعها جرى سردها بشكل مسهب في كتاب ادمون وايت .
والجديد في تلك السيرة ، الكشف عن الصداقة التي كانت تربط جينيه مع ايبيس . وتنشر مجموعة (القوس ) مرفقة بوثائق نادرة مراسلاتهم التي تم العثور عليها ( رسائل إلى ايبيس ) وهذه لم يشر إليها ديشي وفوشيه في كتابهما . وايبيس هو الاسم المستعار لاندريه بلينميزون ، وقد نشرت فيما بعد تحت اسم اندريه بران حكايات للأطفال وقصة اعتناقها المسيحية ( خوفي ونوري ، عطارد فرنسا ( 1972) . وبمساعدتها التحق جينيه الشاب ( وكان كلاهما في الثانية والعشرين من عمرهما ، ولكن جينيه كانت له تجربة في السجن وفي الجيش ) بمجموعة طلبة متحمسين ، أسسوا معاً مجلة أدبية تدعى ( شباب ) .
وتعطي تلك الرسائل صورة واضحة عن جينيه الحقيقي ، بما فيها أفكاره المبنية والمنظمة بشكل عجيب ومدهش وحبه المثلي وشعوره القوي بالإثم ووجود شكلاً من أشكال الصوفية الجمالية لديه، والتي سوف تتطور في كتبه اللاحقة مثل أعجوبة الوردة أو كتابه ( الجرح السري في ورشة البرتو جياكوميتي ) وأيضاً في مسرحياته. ولأنه غرق في العالم السفلي فقد أراد أن يحول هذه « الرذائل « إلى « فضائل لاهوتية « حقيقية من خلال كيمياء الكتابة الفخمة والمتوهجة. يُدخل عالم كامل مرفوض ومقموع ومدان- عالم اللصوص والمخنثين والخونة والقتلة والعاهرات والمهمشين – إلى الفضاء الأدبي. وبالتالي فإن جينيه لا يصف هذا العالم من الخارج فهو نفسه جزء من هذا العالم المضرب. يقترب كما يصف من ( الجانب الآخر من العالم ) الذي تتمثل أكثر قوانينه سرية في الرغبة والعنف والتعدي والموت. وضع تصوراً للكتابة أشبه بالحياة: النزول بها مسرحياً إلى الشارع، بحيث « أن التراجيديا يجب أن نعيشها، لا أن نمسرحها «. ولذلك اتسمت أعماله المسرحية بالجدية والعنف والفورية وكل ذلك كان يترافق مع استهزائه من طموحاته وحماسه الخاص . ولكننا نشعر ، بشكل خاص بحماسه لسرد قصة المسافر عبر صحراء أفريقيا الشمالية، في كتاب ميشيل فوشانج (سامارا 1930) والتي يسرد فيها رحلته المحفوفة بالمخاطر إلى قرية السمارا شبه المستعصية في الجنوب المغربي الصحراوي. أي نجد فيها استجابة جينيه لنداء الصحراء . ومن الغريب أنه وبعد مضي خمسون عاماً نجد أن رواية الأسير العاشق، والتي صدرت بعد رحيل جينيه بشهرين، حيث كانت بروفاته المصححة موضوعة فوق طاولة غرفة نومه، هي جزء من حياة الشاعر أرثور رامبو وت . أ . لورنس . وبالتالي تجتمع الصحراء والعالم العربي والوحدة وانحلال الهوية هنا في هذا الكتاب . بالإضافة إلى ( إحساسه بأنه ميت ) .
في كتابه ( جان جينيه: الكاذب الشامخ ) يكشف الروائي المغربي الطاهر بن جلون، والذي ارتبط بصداقة قوية مع جينيه عن وجه جينيه – لأن جينيه لا يقتنع البتة بكتب سير القديسين المجمّلة أو بالمجاملات – الكاره للبشر ، المتذمر وأحياناً شبه المتشرد ، والذي فجأة يتحول بلا توقف نحو التفكير والتعقل ، كما يتضح من النص العظيم المنشور بعد وفاته ( الحكم ) . وبالإضافة إلى ذلك لا ننسى جينيه الرجل السخي ، الذي التفت إلى طاهر بن جلون ، الكاتب المبتدىء والطالب ليدعمه مادياً في اطروحته في علم الاجتماع حول الحياة الجنسية لدى العمال المهاجرين. كانت مسرحياته تُعرض في جميع أنحاء العالم وقد جعلته غنياً. لكنه كان يفضل إعادة توزيع أمواله على صداقاته، ولم يكن يملك أي شيء.
في عام 2000 استدعى المحامي رولان دوما الكاتب البير ديتشي المتخصص في أعمال جينيه إلى مكتبه بغرض فتح الحقيبتين. « حين فتحتهما سُحرتُ بتلك الفوضى الثرية المدهشة والتي هي أشبه بمغارة علي بابا « يقول ديتشي وفيها كان نسخة من « الإشراقات « لرامبو وقميص قطني وفولار كان يلفه حول عنقه مسودات كثيرة، مغلفات، ملاحظات، دفاتر، مخططات ونصوص جاهزة أو شبه منتهية منها بداية لجزء ثان من كتابه « أسير عاشق « وسيناريو فيلم وكتاب كبير عن فلسطين أنجز جينيه مقاطعه على أغلفة قطع سكر وعلى قفا فواتير الفنادق. حيث اكتشف جينيه بعد أحداث مايو 1968 أن ثورته الداخلية يمكن أن تعقد قرانها على ثورة في الخارج ، فكان اختياره للفلسطينيين الشعب المطرود من أرضه وليتوج التزامه هذا بنص « أربع ساعات في شاتيلا «. ولكن لماذا اختار جينيه رولان دوما، محاميه، والمعروف عنه محامي الانتلجينيسيا الأوروبية ليودع لديه حقيبتيه السحريتين. يبرر ذلك جينيه بقوله ( لكنته الجنوبية، ولأنه لا يلقي بالمواعظ كما يفعل زملاؤه الباريسيون ) وأصبح دوما صديق جينيه وكاتم أسراره، بعد أن جمعهما حب الفن والعالم العربي وحتى الرغبة في انتهاك المحرمات. حقيبته تلك التي رافقته في طوافه بين جثث مخيم صبرا وشاتيلا وفي حياته مع الفدائيين الفلسطينيين في المخيمات وترحاله في غيتويات السود في أميركا وصولاً إلى مقامه في بيت ( الأشرعة الزرقاء ) الذي شيده لفتاه عبد الله في لاراش بالمغرب يروي محتواهما هذا الصراع بين كاتب لا يرغب في الكتابة وهذا التوق إلى الكتابة الذي يغمره ، وحين أودع حقيبتيه لدى دوما كان قد مضى على هجرانه الكتابة كلياً 25 عاماً.
وفي الوقت الذي ابتعد فيه طويلاً عن الأوساط الفكرية التي رفعته إلى الأوج ، إلى مرتبة سارتر وكوكتو ، وفي الوقت الذي لم يعد فيه يبالي بالمسرح، رغم الشغف والفضائح التي أثارها عبر العالم وكذلك في الوقت الذي هجر فيه مشاريعه السينمائية العديدة, كان جينيه يسعى ليرفع صوته الإنساني، السياسي والمنحاز للخيار المناهض للمجتمعاتية والمناهض للمؤسساتية، ولتبديد حزنه على وفاة عبد الله حبه الكبير ، وذلك من خلال إقامة علاقات غرامية أو علاقات أبوية . وكان يؤمن بإعادة طرح نفسه في كفاحه إلى جانب نضال الزنوج ونضال الفلسطينيين والمتطرفين الألمان واليابانيين. وفي نفس الوقت حاك نوعاً من النسيج المشفّر التلافيفي، كلمة السر له هي العالم العربي، والمنفى دون عودة، وموسيقا الفلك، والثورة الدائمة، ولغز الأمومة والتلاشي في مشاهد رقص الأطياف .

رقم العدد 1097
التاريخ: 31/5/2022

آخر الأخبار
السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص السبت القادم… ورشة عمل حول واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر والصغيرة وآفاق تطويرها مدير "التجارة الداخلية" بالقنيطرة: تعزيز التشاركية مع جميع الفعاليات ٢٧ بحثاً علمياً بانتظار الدعم في صندوق دعم البحث العلمي الجلالي يطلب من وزارة التجارة الداخلية تقديم رؤيتها حول تطوير عمل السورية للتجارة نيكاراغوا تدين العدوان الإسرائيلي على مدينة تدمر السورية جامعة دمشق في النسخة الأولى لتصنيف العلوم المتعدد صباغ يلتقي قاليباف في طهران انخفاض المستوى المعيشي لغالبية الأسر أدى إلى مزيد من الاستقالات التحكيم في فض النزاعات الجمركية وشروط خاصة للنظر في القضايا المعروضة جمعية مكاتب السياحة: القرارات المفاجئة تعوق عمل المؤسسات السياحية الأمم المتحدة تجدد رفضها فرض”إسرائيل” قوانينها وإدارتها على الجولان السوري المحتل انطلقت اليوم في ريف دمشق.. 5 لجان تدرس مراسيم و قوانين التجارة الداخلية وتقدم نتائجها خلال شهر مجلس الشعب يقر ثلاثة مشروعات قوانين تتعلق بالتربية والتعليم والقضاء المقاومة اللبنانية تستهدف تجمعات لقوات العدو في عدة مواقع ومستوطنات “اللغة العربيّة وأثرها في تعزيز الهويّة الوطنيّة الجامعة”.. ندوة في كلية التربية الرابعة بالقنيطرة