ثورةأون لاين – بقلم رئيس التحريرعلي قاسم:
قد لا يكفي العنوان لتقديم المقاربات التي تقتضيها إجابات الأسئلة المؤجلة منذ عقود، لكنه بالمقابل يحاول الإضاءة على شقها البديهي الذي تختطفه الأحداث خلسة، وأحياناً عنوة وفي وضح النهار دون أن تترك مجالاً لأخذ النفس،
ما حال دون التفريق بين ما يستجد من تلك المقاربات وبين ما هو مستوطن وقائم بحكم الأمر الواقع.
في لائحة الحديث المتصلة بالبعث، وما ينطوي تحت لوائه، تكثر الأسئلة الاستدراكية ونحن على عتبة تحولات مفصلية لا تنحصر في البعث ومعركة التحدي، ولا في الأحزاب ودورها. ولا في المنطقة وخرائط المجهول التي تنتظرها، بقدر ما تحاكي تداعيات تحاول أن تقفز إلى الخلاصات المعلبة، وإجراء المحاكمة – افتراضياً – على أساسها.
وكثيراً ما خرجت الادعاءات عن سياقها، وساهمت عوامل عدة في الاستطالات المرضية التي برزت وتراكمت، وإن لم تكن جميعها بفعل العوامل الخارجية بل لها جذر داخلي، تضخمت لديه الخشية من المبارزة وأخرج نفسه من المعركة طواعية، أو حيد حضوره بانتظار النتائج التي مالت الكفة فيها باتجاه الافتراضية التي سوّقتها ماكينة الإعلام.
أما في أجندات البعثيين فالمقاربة تبدو مختلفة وإن كانت نقاط الاشتباك ذاتها، وخصوصاً مع بروز حالات اشتبهت على أصحابها في البداية فجاءت المحاكاة متباينة في الاتجاهين بحيث جرت محاولات فصل بينية أرادت أن تفرق بين المبادئ والسلوك، وأن تفيض مساحة التباين بما يتيح النظر إلى المسألة من زوايا توفر حداً أدنى من الحصانة ضد أي ارتدادات غير محسوبة.
الرسالة تلك لم تفهم دائماً في سياقها الصحيح، وكثيراً ما تم وضعها في منحى خاطئ، وجاءت التفسيرات اللاحقة لتضيف عبئاً جدلياً في التبعات المرادفة لها، حيث جرت عملية المحاكمة ذاتها وسبقت النتائج مجرياتها بمسافات طويلة، فحدثت عملية الخلط، ومعظمها جاء متعمداً وتم تسويقه في زحمة التطورات التي زادت الطين بلة وأشركت معها حملات الاستهداف الفردي والجماعي والتنظيمي.
اللافت، أن هذا التحدي لم يكن وليد اللحظة، ولا هو الأول من نوعه، في حين بدت المعالجات وكأنها تستنطق التجربة دون النظر إلى التراكمات النضالية، ولا إلى الخبرات الذاتية والموضوعية على مدى مسار الأحداث وما قبلها، فجاءت متلبسة بالتهم ذاتها وهي تحاكي ظروفاً متشابهة استنسخت جبهات الهجوم وأدواته، وأحياناً أساليبه، وبعضها استنبط بعض التحديثات من واقع الحرب وتداعياتها و«البروباغندا» المجانية التي قدمتها تعرجات وسلوكيات نافذة ومترددة في الحسم.
وحين كانت الاتجاهات تتحدث عن التحييد في البداية، وأن المعركة لا تستدعي الدخول إلى خط المواجهة ولا التقدم باتجاه جبهات الاستهداف، جاءت الأحداث وتطوراتها لتزجّ بالبعث والبعثيين في الخط الأمامي، حين فرضت المعركة شروطها وأماطت اللثام عما خفي خلف الأقنعة الشعاراتية التي اكتسحت ساحات المواجهة.
في المحصلة الأولية.. بدت الاختبارات غير المحسوبة تتوالى تباعاً، وبعضها كان متعمداً وحاولت الاعتماد كلياً على الدمج المباشر في التداعيات دون تفريق، وجاءت الاستنتاجات متسرعة والأحكام مستعجلة لكن الانعطافة في الإدراك باتجاه تحسين شروط المواجهة لم تتأخر عبر التثبت واقعياً من الاستهداف المدروس والقائم، خصوصاً بعد أن أبدى البعث والبعثيون – ومن دون أن يطلب أحد- مقدرة على الثبات والاستمرار.
أما في المقاربة النهائية التي تحاول اليوم أن ترسم إحداثياتها على خط المواجهة، فإنها تبدو مغايرة تماماً، بل في بعضها شكلت انقلاباً جذرياً أعاد إلى العنوان الذي طرحناه جزءاً أساسياً من مشروعيته حين برزت على السطح تجاذبات العلاقة وبلورت مفاهيم تعيد الانسجام إلى القاعدة الحزبية على أساس الوجود التنظيمي من جهة، وتطلق المجال أمام تطوير الفعالية والديناميكية في الارتباط المصيري بين البعث والبعثيين، وردم الهوة الافتراضية من خلال الواقع العملي من جهة ثانية.
لذلك.. ما نراه اليوم ليس حراكاً عفوياً في تجذر العلاقة وعودة الحيوية، بقدر ما يحاكي حاجات شعبية انطوت تحت لوائها ومارست حقها الفعلي في التعبير عن أن الاختبار -رغم قساوته- قد أفصح عن معدن أصيل للبعث وعن ذوات أكثر أصالة للبعثيين، وأثبتت بالوقائع والقرائن أن ما يمتلكه ليس مجرد أرقام تنظيمية تتداولها الجداول واللوائح، بل هو عمق وجودي له قاعدته الجماهيرية التي لا تزال تتمتع بحيوية لافتة على مستويات التفاعل، وأن ما حركه البعث في ذكرى تأسيسه يتعدى مساحات الحضور الإعلامي والمكاني، ولم يكن عملاً دعائياً بقدر ما كان فعلاً يتوّج النجاح في اختبار الذات.
على امتداد المدن والمحافظات تشكلت مشاهد لا تعيد نمطية الذاكرة بقدر ما تنظم الصورة وتعطيها أبعادها المهجورة منذ عقود، وبغض النظر عن مساحة ارتسامها وظروفها التي ندرك جميعاً متاعبها، فقد كانت كافية للخروج من نفق الإجابات الاستدراكية التي اعتدناها، وأن البعث والبعثيين حاضرون في العمق الشعبي ولهم امتدادهم العملي بعد سنوات مريرة من المواجهة غير المتكافئة، فكان البعث إضاءة جديدة والبعثيون خزان حضور وجودي وإنساني يحاكي البعد الفكري، وهو يستنهض الذات من أجل إضافات فكرية تهيّئ المناخ لتجديد الأدوات وإجراء المراجعات الذاتية والموضوعية، ولو اقتضت في بعض الجوانب أن تتوازى مع بعض المقارنات، بما تقتضيه مقاربات اللحظة الراهنة وما تمليه من استثنائية.
a.ka667@yahoo.com