الثورة – أديب مخزوم:
تحتفي الأوساط الفنية والثقافية بمرور مئة عام على ولادة الفنان الرائد أدهم إسماعيل ( 1922 ـ 1963) والذي يعتبر أحد أبرز رواد النهضة التشكيلية السورية الحديثة، فهو من مواليد أنطاكية عام 1922، ومنذ طفولته كان ينصرف إلى رسم المشاهد الطبيعية والريفية، ما أكسبه شهرة وصلت إلى أسماع بعض المسؤولين، الذين قرروا إيفاده إلى روما في العام 1953 لدراسة الفن في أكاديميتها والاطلاع على متاحفها، ومراجعة بعض أعماله تكشف أن تأثره بالأساليب الفنية الأوروبية الحديثة، بدأ قبيل سفره. ولهذا يشير العديد من الفنانين والنقاد إلى أهمية تجربته في إطلاق موجة الحداثة في التشكيل السوري، حيث كان ومنذ أوائل الخمسينيات، يرسم الأشكال الطبيعية والإنسانية ضمن مساحات لونية تجريدية، ويقدم من خلالها تنسيقاً ساحراً للألوان، وكان اهتمامه مركزاً حول رحلة تشكيل انسيابية الخط، على طريقة الخط الذي لا نهاية له.
كان يعمل بشكل يومي متواصل لإيجاد صياغة فنية حديثة تجمع بين إيقاعات الصياغة اللونية الغربية وجماليات الحركة اللامتناهية الموجودة في التراث العربي (الأرابسك) تلك الحركة التي اعتمدها في معظم لوحاته، لتثوير الأشكال الساكنة وإبراز التعبير الجمالي الذي أراد إيصاله إلى المشاهد.
وبالرغم من ارتباط لوحاته بالقيم الجمالية الحديثة فقد كان يتعاطف في أحيان كثيرة مع الإنسان في معاناته اليومية، حيث جسد في بعض لوحاته مختلف أجواء الحياة الريفية ولا سيما ظروف العمل في الحقول. إضافة إلى تناوله لمواضيع الطفولة المعبّرة عن المأساة والمعاناة، وبذلك شكلت لوحات البدايات فسحة للتمسك بالإنسان والأرض، ثم انطلق نحو تجسيد عناصر المرأة والأشكال الحيوانية ورموز الطبيعة.. كل ذلك بصياغة فنية حديثة منفلتة من قيود الدراسة الأكاديمية، إن لجهة اختيار المادة اللونية أو لجهة رؤية الأشكال المتداخلة مع المسطحات اللونية للوصول إلى الصياغة الفنية المتجددة في اتجاهاتها التعبيرية والتجريدية.
فلوحاته توفق بين مظاهر الحد الأدنى لإشارات الأشكال الإنسانية ورموز الطبيعة والعناصر الأخرى، وبين المقدرة على تجسيد الأحاسيس الداخلية بالتعبير اللوني الآتي من طريقة تسطيح المساحة وتحديدها بحركة خطية متواصلة دون انقطاع تؤكد الأسلوب الشخصي، وتذهب إلى درجة من العقلانية والهندسية، بحيث تتداخل الأشكال مع المسطحات اللونية التجريدية.
ولقد ارتبط بالمفاهيم القومية التي كانت صاعدة وبقوة في الخمسينيات ومطلع الستينيات، حيث جسد في بعض لوحاته الشهيرة وخاصة (الفارس العربي) التي أنجزها في عام 1953. ثم قدم في عام 1958 سلسلة من اللوحات المعبرة عن مرارة الانكسار ومن أبرزها (ما وراء القضبان) و(الثائر المطارد) كل ذلك في محاولات الإحاطة بالهزائم والإحباطات التي كانت تحيط بالإنسان العربي في تلك المرحلة التي عرفت الكثير من الانتصارات والإخفاقات أيضاً.
وبالرغم من اهتمامه بالقضايا القومية ومعالجتها في بعض لوحاته، فقد ركز في لوحات أخرى كثيرة لإبراز الجوانب الجمالية والتشكيلية الخالصة، عبر مواضيع الطبيعة والوجوه والزهور والطيور والرموز الأخرى، التي عالجها بأسلوبية حديثة معبّرة عن جماليات الاختزال والاختصار في الاتجاهين التكويني والتلويني.
ولقد أعطى لوحاته مبدأ القوة الخطية والمساحة الهندسية (دوائر، أقواس، خطوط مستقيمة، التفافات لولبية وحلزونية…) حيث شكلت تجربته تحولاً بارزاً في مسار التجارب التشكيلية التي كانت سائدة عندنا، من ناحية الانحياز نحو التسطيح والتركيز لإظهار إيقاعات الأشكال المختصرة (كالشجرة مثلاً) التي تبرز جمالية الانتقال من الإيقاعات والبنى التشكيلية المكثفة، إلى إيماءات اللوحة التي تحتضن شكلاً واحداً أو على الأقل تتوقف عند إشاراته الخارجية المعبرة عن حساسية بصرية وروحية نادرة لدى الفنان.
وهذا يعني أن لوحات أدهم اسماعيل قد اختصرت رؤيته الفنية في تنويعاتها المختلفة، التي سجل من خلالها ملامح مهارته في التكوين التشكيلي الحديث، وقدرته في الوصول إلى حدود الصياغة الفنية المتطورة للوحة العربية الحديثة.
كل ذلك في خطوات إظهار عناصر الجذب البصري، والتماس موسيقا الخطوط والألوان المنحازة نحو جماليات العودة إلى استلهام ما يمكن تسميته بديمومة العناصر التراثية، المنفتحة على طروحات الحداثة والأصالة في آن واحد.
في 25 كانون أول من عام 1963 توفي أدهم اسماعيل، بعد ثلاث سنوات من حيازته لجائزة بينالي الاسكندرية. وقد كتب عنه كبار الفنانين والنقاد، وأطلق اسمه على مركز دمشق للفنون التشكيلية، تخليداً لذكراه، واعتبر منذ ذلك التاريخ كواحد من كبار رواد الحداثة في حركتنا التشكيلية السورية المعاصرة.