ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير عـــلي قــاســـــــم:
يستعيد السوريون طقوس الجلاء وقد ارتسمت في وجدانهم ذاكرة تمتد في جذر سنينهم، وتنبسط أوراق اليقين وهم القابضون على الحقيقة بكل ما فيها، ومعها يستحضرون الكثير مما تم تأجيله في سنوات صاخبة مرت غيومها الداكنة وأعاصيرها العاصفة وهي محملة بضغينة العدوان، ومتخمة بأجندة استهداف مصنعة خصيصاً.
الاستفاضة في حديث السوريين هذا العام ليست مجرد إعادة تبويب لأولويات تتعدد فيها الإسقاطات، وتزداد مساحة الاستدلال على حواف استعصت فيها ملامح المسلمات، واختلطت معها قضايا الجدل والنقاش، لكنها لم تخلط في الأساسيات ولا في الثوابت، وقد جمعت السنوات الثلاث ما يفيض عن الحاجة.
على بوابة الجلاء تقف الاجتهادات جانباً، وتركن الاستنتاجات إلى حيث تستجدي مكاناً لها على الرفوف، وكثير من التفسيرات تأخذ موقعها داخل الأدراج، لأن الوقائع تملأ المساحات والهوامش معاً، وهو حق لها في إطلالة تكون الأكثر صدقا ًوهي تمتد على خطوط العرض والطول في خرائط ما زالت غير قادرة على التسرب خارج إحداثيات الصدمة المبكرة والتي كانت دافعاً لنعيد تشكيلها بحيث تشمل كل ذرة تراب من هذا الوطن.
لم تعد مواكب السوريين تنتظر لحظة البدء لتعلن قيامتها، وهي تسجل في دفاتر الجلاء صفحات إضافية، بيقين ان كل ما تحقق في ملاحم الجلاء يعيد تشكيل الصورة القادمة، مع رسوم توضيحية لدروب أجمعت على أن ما تترجمه إرادتهم في الميدان والسياسة يؤكد تصميمهم وعزيمتهم على التمسك بالاستقلال والسيادة اللذين يتعرضان لأقصى درجات الاستهداف.
في حضرة الجلاء هذا العام ترتدي مواسم السوريين حلتها من واقع الحال، وهي تتقصى اخبار الميدان في الربوع السورية، من تلالها إلى جبالها مروراً بقراها وبلداتها وصولاً إلى مدنها، وهي تحاكي طموحاً واقعياً ومشروعاً في الذهاب أبعد من حدود الارتسام المؤقتة التي تفرضها احياناً بعض الجزئيات في القراءات المتسرعة لتداعيات ما يجري.
فالذاكرة لا تقف عند تخوم الحدث ولا تكتفي بما يستدل من أوراق وتجليات ظاهرة للعيان، بقدر ما تحاول أن تعيد المشهد إلى الأسطر الأولى التي دوّن فيها السوريون مشهد وجودهم وخطوات الاستقلال الأولى وخطوات ما بعد الجلاء، وأن هذا الجلاء وذاك الاستقلال كانا هدفاً واضحاً وظاهراً ولا يزالان تحت القصف اليومي بأشكال مختلفة، ولا يكاد يغلق باب حتى تفتح بوابات وأحياناً نوافذ.
لذلك يتعدى حديث السوريين اليوم مشاهد التداول اليومي في التطورات، وهي الحاضر الدائم في يومياتهم وأفعالهم ومواقفهم، ويذهبون إلى التوقف طويلا أمام ما فرضته من تحديات وما تمليه من جبهات مواجهة مفتوحة على جهات الأرض الأربع وحرب وجود، وقد استحضرت قوى العدوان فيها الإرهاب والاستهداف بلغات الأرض كافة، ولا تكاد تغيب عنه جنسية أو موطن دون أن يكون لها دور أو يد أو ذراع.
يقين السوريين لم تعدل منه ولا فيه كل جحافل الغزو والطغيان ولم تغير نسق وجودها في سطور وجدانهم، وقد حسموا خيارات المواجهة منذ زمن بعيد، وما علق يجزم بأن الجلاء لم يعد ذكرى فقط بقدر ما هو حالة قدرية حكمت على السوريين المواجهة الدائمة والمفتوحة مع مشاريع الهيمنة وسلب القرار أو التعرض للسيادة تحت أي عنوان كان.
الضريبة مرتفعة .. والثمن ربما كان غالياً، لكنه من أجل الوطن.. وفي سبيل الاستقلال، وحفاظاً على السيادة، وتحت هذه الراية ستبقى الإرادة التي أورثت السوريين قدرة الصمود والثبات وقلب المعادلات، كي يظل الوطن الذي ضحى الأجداد من أجل جلاء المستعمر عنه مستقلاً في قراره.. حراً في خياراته.. وسيداً في جميع صوره.
في يوم الجلاء يستعيد يقين السوريين حضوره في يومياتهم ومحاضر جلساتهم وفي سطور أمنياتهم وعلى صفحات تطلعاتهم، واقعاً ووجوداً.. أرضاً وقراراً.. فعلاً وممارسة.. دوراً وحضوراً يتكرس أكثر فاعلية في سياق إحداثيات المشهد العالمي، وأكثر تأثيراً في خرائط الواقع الإقليمي.
a.ka667@yahoo.com