الكل يذكر مثلي حكاية الأعرابي الذي اشفق على مسكين تقطعت به السبل فجعله يمتطي حصانه، وعندما نزل ليحضر ماءً للمسكين، لكز الأخير الحصان وابتعد فناداه الأعرابي: “أرجوك لاتخبر أحداً بما فعلت حتى لا تنقطع النخوة بين الناس”.
هذه الحكاية، تحمل معها الكثير من العبر لأبناء هذا الزمن، حيث بات السواد الأعظم من الناس، يلهثون وراء لقمة عيش ورزق يسير يحفظ لهم ما تبقى من كرامة، وقيم في زمن طغت فيه ثقافة الاستهلاك، وتهشمت منظومة القيم المجتمعية، فتبدلت المفاهيم، وكثرت الأقنعة، وضاعت الملامح.
زمن الكل فيه يعارك طواحين الخيبة، ويذرف دماً ووجعاً، وهو يشاهد صور النفاق, والتباين الاجتماعي، تغزو حياتنا اليومية، ويؤلمه ما حولنا من تناقضات صارخة ليس أولها تهافت الكثيرين لحضور حفل غنائي لمطرب حديث جداً، سعر تذكرة الدخول يعادل راتب أكثر من موظف فئة ممتازة!، ومثلها ما يدفع في المولات الضخمة، ومحلات الاكسسوار والماركات وأطباء ومراكز التجميل والتزيين وغيرها وما يثير الأسئلة من فواتير مطاعم النجوم ومناطق الاستجمام والرحلات والترفيه، والشواطئ التي امتلأت الحجوزات لما بعد الصيف بأرقام فلكية!؟.
بالتأكيد لست ضد كل ما ذكرت فمن حق البلاد أن تعيش حالة الحياة والفرح بعد ما قابلته من معاناة وآلام لسنوات طويلة لكنني مثل الكثيرين أسأل: من أين كل هذا ؟! ومن هم هؤلاء الذين ينعمون بكل هذه النعم؟!، في وقت ترى فيه ارتفاع مستويات الحاجة، والفقر الذي ازدادت شريحته بين أكثر الناس.
ربما نتوقف هنا، لندور الزوايا نحو صور مشرقة، تظهر بوضوح وسط هذه اللوحة الداكنة، صور يتشارك فيها الخيرون، وأصحاب النخوة من أهلنا داخل الوطن، وأولادنا في المغتربات، الذين لم ولن ينسوا أهلهم، وبلدهم، فيخف الحمل عن كواهل المحتاجين، لكن الوجع لا ينتهي، وربما في ازدياد، وسط انتشار” ثقافة” غريبة عنا.. ثقافة كل شيء متاح أمامك، وكل ما تفعله مبرر، وهناك من يصفق لك ويسهل لك مسارات الانهيار، وأنت كلما بالغت في الخطأ، وجمعت المال، فأنت الشاطر، ومعترضوك يحسدونك وعيونهم ضيقة!!! إنها ببساطة ثقافة الاستسهال!؟، والاستهلاك للبشر، قبل منظومة القيم المستهدفة أولاً.
والغريب هنا، أن هناك من، ركب الموجة محباً، أو كارهاً، وبات يسوق لمثل هذه الثقافة الوافدة، والمستهجنة، خاصة مع توسع جوقة المصفقين، والمهللين لها، وباتت صرخة ذلك الأعرابي – كي لاتضيع النخوة- مجرد عنوان عريض، يتغنى به أصحاب الاختصاص، ويستخدم للمناسبات النخوجية، بينما ذلك اللص، يختال مع مستقبليه بالغنيمة، التي أخذها بذكائه الخارق.
بشار الحجلي