الملحق الثقافي- لينا كيـلاني:
لغتنا العربية هي أمنا التي تضمنا جميعاً كأمة تحت جناحها لتوحدنا، ولا تدعنا نتفرق ولو تعددت لهجاتنا إلا أنها تظل تتدفق من نبع واحدٍ.. لكن كثيراً منا بات يجترح بنيانها كمن يلقي أشواكاً في طريق تحت أقدام عارية فتتعثر في مسيرها.
لغتنا العربية هذه التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة كواحدة من اللغات الست الرسمية في المنظومة الأممية، والتي انفردت وحدها من بين لغات العالم بحرف (الضاد) حتى إنها دعيت به، أصبحت تستغيث مما يفعله أبناؤها بها وهي تتهاوى على ألسنتهم بين العامية والفصحى غير السليمة التي تكتظ بالأخطاء اللغوية، والإملائية ولاسيما عبر منصات التواصل الاجتماعي التي باتت تستسهل خطاب العامية، بل إن العدوى وصلت إلى وسائل الإعلام المرئية، والمسموعة التي يكاد ينتفي منها سماع الفصحى إلا في نشرات الأخبار الرسمية. وكأن الأذواق العامة أصبحت تستسيغ لغة هزيلة تسود على حساب اللغة الأم، بل تتجرأ عليها وتقلل من هيبتها.
وإذا كنا نحتفل كل عام بيوم اللغة العربية فلعل علينا أن نقف مع أنفسنا وقفة صدق لنسأل: (ماذا قدمنا لهذه اللغة وكيف سنحافظ عليها؟).. بل لنطرح هذا التساؤل كموضوع للاحتفال، وذلك قبل أن نقيم طقوس هذا الاحتفال. وأذكر أنني تساءلت في مقالةٍ لي في العام الفائت في مثل هذه المناسبة، وكان موضوع الاحتفال آنذاك (اللغة العربية والتواصل الحضاري): كيف سنتناقل المعارف في سياق التواصل الحضاري، ويتم هذا التواصل، ويرتقي الحوار إذا كان سيتم بلغة منقوصة غير سليمة في بنيتها؟ وكيف لمحرك البحث أن يقوم بترجمة صحيحة لكلمة، أو لعبارة لا يعرف صاحبها كتابتها بشكل سليم لغوياً، ومن دون أخطاء إملائية؟
حالة من العنف اللغوي باتت تُمارس على لغتنا، وكأنها ليست منا، أو لسنا منها. كل ما يجري، وكل هذه التساؤلات تدفعنا لأن نطرق أبواب مجامع اللغة العربية لنسأل: اللغة العربية إلى أين؟ بل أين معجمكم العصري الذي سيواجه موجة (الفرانكو آراب) التي تتداخل فيها العربية مع الأجنبية، وتلك الأخرى التي أحلت الحروف اللاتينية مكان الحروف العربية في تواصل الأفراد فيما بينهم، إضافة إلى الاشتقاقات اللغوية العجيبة الغريبة منها والتي تتجاوز كل المعايير؟!
إلا أن مجامع اللغة العربية كلما اجتهدت لتوائم بين المفردات المستحدثة وما هو من نسيج اللغة بإيجاد المصطلحات المناسبة وجدت نفسها لا تزال مقصرة في مجالها، وأن سريان تيار المفردات الأجنبية التي تسود وتتسرب إلى نبع اللغة الصافي هو أسرع من أبحاثها، ودراساتها، واجتهاد علمائها في إعادتها إلى نقائها، ووضع الضوابط التي تمنع تأثير اللغات الأجنبية عليها.
وعلى افتراض أن مجامع اللغة العربية مقصرة في اجتهادها بينما الزمن يسبقها فإنني أتساءل بالتالي: ماذا جرى للناس وهم يفقدون ذائقتهم اللغوية في تذوق جمالية لغتهم؟ لماذا باتوا لا يستنكرون هذه التجاوزات، ولا يغارون على اللغة، ويخافون أن تنهار أسوارها؟
أذكر أنني عندما تخرجت من كلية الهندسة الزراعية بحثت حتى اقتنيت معجماً إنكليزياً لمصطلحاتها من إصدارات منظمة الأغذية والزراعة الدولية (الفاو) حتى لا أرتكب خطأً ما في الترجمة ما بين العربية والإنكليزية.. وها أنا وما زلت أدرس في مدرسة الحياة بحثت عن معجم معاصر للمصطلحات التي اختلط منها الحابل بالنابل فلم أجد مَنْ يرشدني إليه! وعندما وضعت أصابعي فوق أزرار (الحاسوب) راجية من محرك البحث أن يهبط بي في موقع يجيب على أسئلتي لواحد من مجامع اللغة العربية فإذا بي أهبط في أرض يباب لا قواعد للبيانات فيها تسعف الباحث.
ومادامت لغة الرقمية قد أصبحت لغة التداول، والتفاهم، والبحث، والرصد بعد أن مزقنا الأوراق في استغناء ولو جزئي عنها فلا عذر لمؤسسات كبرى ألا تسعف مَنْ يطرق أبوابها بإجابات واضحة، وحاسمة.. ولو أن بعضاً منها قد حشد إمكاناته الذاتية ليوفر للباحث بعض ما يسأل عنه من المصطلحات الحديثة في اللغة.
لكني أقول في الوقت ذاته: ماذا ستجدي نفعاً المصطلحات المعاصرة إذا ما لمَّت بها كل المجامع اللغوية ما لم تروّج لها بالشكل الأمثل والصحيح، وتسبر ردود أفعال المستخدمين لها، وآراءهم حيالها لتسود بينهم؟
إضافة إلى كل ما ذُكر لا أستطيع أيضاً أن أغفل مأزق الترجمة في هذا السياق.. فماذا هي فاعلة عند ترجمة الكتب الحديثة، والمفردات المعاصرة، والأكثر جدةً منها، والتي أرستها الرقمية، والابتكارات الحديثة؟ بل كيف سيكون للترجمة وقعها المؤثر إذا ما فشلت في نقل المعنى بلغة مفهومة، وكلمة صريحة، واضحة؟
ظاهرة غير مسبوقة من تدفق المفردات الدخيلة إلى اللغة العربية، واستخفاف من أهل اللغة بلغتهم الأم، وتجاوز على حقوقها، وطغيان للعامية بلهجاتها المتنوعة، وغياب عن مواكبة المعاصرة بحق، وحال لا تحسد عليه مجامعنا اللغوية.
فهلا أسرعنا إلى إسعاف لغة (الضاد) قبل أن تنزل هذه الملكة عن عرشها إذا ما كثرت خدوش حروفها.
العدد 1126 – 3-1-2023