الثورة – لميس علي:
ونستطيع القول بدلاً عن “الملل”، العزلة.. الوحدة.. أو أي شرط وجودي يدفع المرء لمواجهة ذاته وحيداً..
فما السبيل للتخلّص من هذا الإحساس الذي يُجبر الإنسان على ملاقاة نفسه أعزل من أي آخر..؟
هل ثمة نوعٌ من الرعب والخوف في مواجهة ذواتنا..؟
في فيلم (جنيّات إنيشيرين) يناقش البريطاني “مارتن مكدوناه” هكذا نوع من التساؤلات في عمله الذي يأتي من كتابته وإخراجه..
والأجمل أنه يطرح موضوعته في ظرف مكان يدفع بتساؤلاته إلى الأقصى..
فهل كانت قصة (باتريك، كولن فاريل) مع صديقه (كولم، بريندان غليسون) لتذهب إلى هذا الحدّ لولا وجودهما في جزيرة يسكنها قلةٌ من الناس.. ؟
بالإضافة إلى الزمان الذي يعود لعام 1923، جاعلاً من الحرب، بشكل ما، خلفيةً للأحداث التي تجري في الجزيرة الإيرلندية..
ولهذا سيكون للمكان الذي اختاره (مكدوناه) تأثيرٌ قوي في سير الحدث.. وربما في وجوده..
وكأنه برمزيته يدخل ليتقاسم البطولة، نوعاً ما، مع طرفي المواجهة/الصراع بين “بادريك وكولم”..
فما هو الصراع أو الخلاف الذي نشأ بين صديقين بشكل مفاجئ وترافق مع انقلاب في شخصية المسالم “بادريك” إلى إنسان يمكن له أن يؤذي الآخر/الصديق، بدايةً، دون أي قصد.. ثم مع تطور الأحداث يصبح مع سابق القصد والرغبة.
يحكي العمل كيف أراد “كولم” أن يتوقّف عن مرافقة “بادريك”.. ليس لأي سبب سوى لأنه اكتشف هكذا فجأة مع مرور الوقت أن صديقه شخص ممل.. وأنه لم يعد لديه وقت لإضاعته معه.. فهو يريد أن يصنع شيئاً ما، ربما كان ذا معنى، كأن يؤلّف مقطوعات موسيقية جديدة..
وبالتالي يقدّمه العمل شخصاً ذا رغبة بتحقيق نوع من النجاح.. قبالة شخص آخر ذي قناعة، راضياً بحياته البسيطة المسالمة.
أجمل ما في الحبكة يتبدّى في مشهد المواجهة، في الحانة، بينهما.
فبعد محاولات عديدة من “بادريك” في ملاحقة “كولم” لفهم السبب وراء ابتعاده عنه، يقوم الأخير بتهديده أنه سيقطع في كل مرة يحدّثه فيها أحد أصابع يديه.. ثم تأتي لحظة المواجهة حين يكون “بادريك” تحت تأثير الكحول، ناطقاً بحديث ذي مغزى يثير إعجاب “كولم”..
وفي هذه اللحظة تحديداً تتجسّد غاية العمل حول المفاضلة ما بين الأشياء التي تدوم وتلك التي لا تدوم..
فاللطف لا يدوم من وجهة نظر “كولم”..
ما يدوم من وجهة نظره هو الموسيقا، الشعر، اللوحات، أي الإبداع وأصحابه..
فنحن، برأيه، لا نتذكر لطفاء القرون الماضية، بل نتذكر أولئك الذين صنعوا أعمالاً باقية.. أما برأي “بادريك” فاللطف يدوم.. ولا يهم أسماء المبدعين من سواهم.
في هذا المشهد، يضعنا المخرج أمام وجهتي نظر تمثّل كل منهما قناعة حياتية أو أسلوب عيش.
للصراحة نحن نحتاج إلى أن نتذكر الاثنين معاً أولئك الذين أثّروا بنا عبر أعمالهم الفنية الكبرى وكذلك الذين أثّروا بنا عبر لطفهم وإنسانيتهم.
(جنيات إنيشيرين) قدّم رؤيته بسلاسة وبأداءٍ غاية في الإتقان من مختلف عناصره لاسيما (كولن فاريل) الذي نجح بأداء شخصية الإنسان المسالم القنوع عبر مختلف مواقفه وتصرفاته وكيف يمكن له أن ينقلب إلى النقيض ربما حين يتجمع سيل الإجحاف بحقه.
دون نسيان، أن العمل يبدو في كثير من مفاصله أنشودة بصرية.. تمكّنت من نقل هدوء المكان ومدى سحره وانعزاله بالآن عينه..
ولهذا كان لديه تأثير ضدي.. أي باتجاهين متعاكسين..
فالجزيرة هادئة تصلح للخلق الإبداعي.. بنفس الوقت تدفع المرء غير المبدع للغرق أكثر بكمية العزلة التي تحاصره.. وهذا ما حصل مع “بادريك”.
تم عرض الفيلم في فعالية (بيت السينما- صالة كندي دمشق) الخميس الماضي، وكان حصد مؤخراً ثلاث جوائز ضمن حفل الغولدن غلوب بنسخته الثمانين.