الثورة- باريس- الدكتور جوليان بدور:
سورية مختصر لتاريخ البشرية، ما من حضارة مهمة في مسيرة الإنسانية إلا وتفاعلت على أرضها أو انبثقت في ثراها، المعرفة، الكتابة، الأبجدية، الابتكارات، الاكتشافات، الزراعة والخبز، الحب والقصور، الموسيقا والشعر، الديانات السماوية والطقوس، الأجناس البشرية ولدت أو توالدت فيها منذ ما يقارب أكثر من عشرة الآلاف سنة.
تاريخ مجيد، حضارة عريقة، ثقافة مشرقة، فسيفساء فريدة ومتنوعة، مناخ لطيف وموارد طبيعية وفيرة، موقع جيواستراتيجي وحيد، كل الظروف متوفرة من أجل أن ينعم السوريون بالأمن والأمان والعيش بتآخٍ ومحبة وسلام قبل الأزمة.
الدولة السورية، كالسوريين، دولة مضيافة، علمانية ومسالمة لم يكن لديها أي نزعة عدوانية أو توسعية، الحكومة السورية لم تعلن الحرب على أحد كما أنها لم تهدد أو تبحث على زعزعة أمن واستقرار أي بلد آخر في المنطقة والعالم، ومع ذلك ومن دون سابق إنذار، وجدت الدولة السورية نفسها فجأة، في الخامس عشر من آذار ٢٠١١، أمام حرب غير عادية.
المعتدون لم يعلنوا الحرب عليها مباشرة، ولكن كان عليها أن تواجه حرباً كونية، قُدِمتْ للعالم عبر المضللين بأنها حرب أهلية، بمعنى أن الجيش السوري هو من يرتكب الجرائم المزعومة بحق شعبه وليست المجموعات التكفيرية وداعميهم.
الحرب على سورية هي بالحقيقة حرب سرية بالوكالة (نوع من الثورات الملونة تسمح لأمريكا بجني الأرباح وتفادي الإدانات والتدخل العسكري المباشر) تستهدف وجود الدولة السورية، حرب يقف وراءها ويدعمها تحالف غربي وإقليمي تحت مسمى (مجموعة أصدقاء الشعب السوري)، من بينها أقوى الدول وأكثرها جبروتاً.
التحالف تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ويدعمه مئات الألوف من المتطرفين هواة القتل والإجرام والقادمين من أربع أصقاع الأرض، ونظراً لقوة وعدد الدول والتكفيرين المشاركين في الحرب على سورية، بدت فرص النجاة للدولة السورية في حسابات الكثير من المختصين ومراكز البحوث والمحللين قريبة من الصفر.
مع ذلك وبالرغم من الخسائر البشرية والمادية الهائلة والمروِّعة التي ألحقتها الحرب بالمجتمع والاقتصاد السوري، الدولة السورية صمدت واستعادت القسم الأكبر من الأراضي السورية، لكن الحرب لم تنتهِ بعد، ما يقودنا إلى التساؤل عن طبيعة هذه الحرب وأهدافها، فهل شنت من أجل جلب الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان للشعب السوري كما كانت تدَّعي وسائل أعلام التحالف في بداية الأزمة أم إنها كانت شعارات تضليلية استخدمت من أجل تدمير الحجر قبل البشر في سورية؟
سوف نحاول بهذا المقال، وبالاعتماد حصرياً على معطيات ومعلومات البنك الدولي ومنظمات هيئة الأمم المتحدة كمنظمة الاسكوا وFAO، البرهان بأن الحرب على سورية هي بكل بساطة حرب وجود أو لا وجود بالنسبة للدولة السورية تدور رحاها ما بين أقدم وأعرق حضارة في تاريخ الإنسانية (أي الحضارة السورية) وأحدث وأقوى حضارة في العالم حالياً (الحضارة الأمريكية).
أولاً- سورية عشية الأزمة.. اكتفاء ذاتي واقتصاد ديناميكي..
قبل عام ٢٠١١ المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية كانت كلها جيدة في سورية، فالإنتاج الوطني كان يغطي ما بين ٧٥ بالمئة إلى ٨٥ بالمئة من الحاجات الأساسية للسوريين والفائض يصدر إلى أكثر من ٦٠ دولة، السلع والخدمات الأساسية كالخبز والأدوية والطاقة والطبابة والتعليم متوفرة بأسعار رخيصة أو دون مقابل، كما كانت سورية، بحسب منظمة FAO (٢٠١٨)، “الدولة الوحيدة في المنطقة التي تتمتع بالاكتفاء الذاتي في إنتاج الغذاء وتصدر القمح والشعير والقطن والسكر والطماطم والبطاطا والبرتقال والتفاح وزيت الزيتون واللحوم والبيض إلى الخارج”.
الاقتصاد الوطني كان هو أيضاً في ديناميكية قوية ومتنوعة، فوفقاً للبنك الدولي (٢٠١٧)، شهد الناتج المحلي الإجمالي بين عامي ٢٠٠٠-٢٠١١ وبالقيمة الحقيقية معدل نمو مرتفع ومستدام يعادل ٤،٣ بالمئة، وذلك بفضل نمو وازدهار القطاعات غير النفطية حصرياً، مع معدلات للتضخم (٤،٣بالمئة) والبطالة (٨،٥بالمئة)، فما هي طبيعة الحرب على سورية وأهدافها؟.
ثانياً- طبيعة الحرب على سورية وأهدافها..
الحرب على سورية ليست حرباً تقليدية كغيرها من الحروب من وجهة نظر القانون الدولي، ها هو بلد لم يعلن الحرب على أحد ولم يكن يهدد أمن أي بلد آخر، كان عليه أن يواجه ما بين الليلة وضحاها عدواناً غاشماً لتحالف عالمي بزعامة الولايات المتحدة يضم عشرات الدول، ومدعوماً بمئات الآلاف من المتطرفين الذين لا دين لهم ولا أخلاق والذين جاؤوا من أربع أصقاع الأرض.
كما كان على الدولة السورية أن تواجه أيضاً انحياز هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها الإنسانية، باستثناء مجلس الأمن الذي فرملت قراراته ضد سورية كلاً من روسيا والصين.
تحت ذرائع وحجج واهية من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان لا أساس لها من الصحة، قررت منظومة العدوان شن حرب سرية وعلنية بالوكالة، من أجل القيام بما يسميه الدبلوماسي والكاتب ميشل ريمبو (٢٠١٩) بإبادة جماعية للشعب والحضارة السورية، فما هي تداعيات الحرب على المجتمع والاقتصاد السوري؟
ثالثاً- تداعيات الحرب العسكرية على سورية خلال الفترة ٢٠١١-٢٠١٨..
تعتبر الحرب على سورية من أشد الحروب همجيةً وتدميراً منذ الحرب العالية الثانية، السنوات الثمانية الأولى من الحرب كانت أكثر من كافية لتسديد ضربة قاصمة لما راكمته وأنجزته الدولة السورية من مشاريع تنموية وإنجازات مختلفة منذ عهد الاستقلال، فبحسب منظمة الإسكوا (٢٠٢٠) والبنك الدولي (٢٠١٧) ألحقت الحرب على سورية أضراراً وخسائر اقتصادية واجتماعية وبشرية فادحة وجسيمة:
أ- الأضرار على الصعيد الاقتصادي: تدمير شبه كامل للاقتصاد الوطني، فقد تسببت الحملة العسكرية على سورية ما بين عامي ٢٠١١- ٢٠١٨ بأضرار جسيمة بالمؤسسات والممتلكات العامة والخاصة وبالبنى الأساسية الإنتاجية، فقد سجلت المؤشرات الاقتصادية الكلية تراجعاً كبيراً، أما معدلات التضخم والبطالة فقد شهدت ارتفاعاً جنونياً.
ب- الخسائر على الصعيد الاجتماعي، وقد تسببت الحرب بحدوث أكبر كارثة إنسانية في التاريخ الحديث، فالخسائر الجسيمة لم تقتصر فقط على الجانب الاقتصادي بل طالت بشكل خاص وأساسي الشأن الإنساني والمجتمعي، إذ تسببت الحرب بحدوث أكبر مأساة إنسانية فبالإضافة لعشرات آلاف الضحايا، وأكبر موجة نزوح ولجوء تسببت الحرب أيضاً بتدمير مقومات العيش لأكبر كتلة بشرية فبحسب منظمة الاسكوا (٢٠٢٢)، ارتفع معدل الفقر المدقع وازداد عدد السوريين الذين هم بحاجة إلى مساعدة إنسانية من بضع مئات الآلاف قبل الأزمة إلى رقم كبير من بينهم ٥ ملايين طفل في عام ٢٠١٨، كما أدت الحرب إلى تدهور كبير في الخدمات الصحية والتعليمية ووجود عدد كبير من الأطفال خارج المدارس.
ت- على صعيد الحوكمة: ظهور نماذج حوكمة منافسة لنظام الدولة الوطنية
أدى فقدان الدولة لسيطرتها عن بعض المناطق وعلى معظم الحدود البرية للبلاد إلى ظهور نماذج حوكمة هجينة وغير قانونية، ونشوء اقتصاد حرب سمح بترسيخ قوة الوسطاء والسماسرة ما ساهم في ظهور طبقة ثرية من أمراء الحرب والمهربين، وانتشار الفساد على نطاق واسع في البلاد.
رابعاً- سورية صمدت خلال ثماني السنوات الأولى من الحرب الجائرة على بلادنا لم يترك مروجو “الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان” أي وسيلة تدمير أو تضليل إلا واستخدموها من أجل تدمير اقتصاد بلد كان من أكثر اقتصاديات الدول النامية تنوعاً ونمواً بالرغم من الخسائر المادية والبشرية والاقتصادية الفادحة التي تكبدتها الدولة السورية والدمار الهائل الذي طال البنى التحتية الأساسية والهياكل الاجتماعية، استطاعت الدولة السورية، بمساعدة الأصدقاء طبعاً، الصمود ودحر الإرهابيين واستعادة القسم الأكبر من أراضي البلاد، إلا أن مروجي الحرية والديمقراطية، ومن أجل إطالة الحرب وزيادة معاناة السوريين أكثر فأكثر، قرروا اتخاذ إجراءات قسرية أكثر شدة وصرامة من سابقاتها مثل ما يسمى “قانون “قيصر” الذي دخل حيز التنفيذ في حزيران ٢٠٢٠، أي في أوج أزمة كورونا، القانون يحظر التعامل مع الدولة السورية ومؤسساتها التجارية والمصرفية، فما هي أهدافه وتداعياته على الاقتصاد والمجتمع السوري
خامساً- أهداف ما يسمى “قانون قيصر” وتداعياته..
1– على الصعيد الاقتصادي: يهدف القانون إلى شل الاقتصاد السوري.
– أدى الحصار الكامل الذي فرضه القانون على العلاقات الاقتصادية الخارجية السورية إلى وقف النشاط الاقتصادي بشكل شبه كامل في البلاد ما أدى إلى تهاوي سعر صرف الليرة السورية وتراجع القوة الشرائية للغالبية العظمى من السوريين، فبعد دخول القانون حيز التنفيذ في عام ٢٠٢٠ تراجع سعر صرف الليرة في نهاية عام ٢٠١٩ إلى أكثر من ٤٠٠٠ ليرة لكل دولار واليوم إلى 6000، كما فقد الناتج المحلي أكثر من ٢٥ بالمئة من قيمته.
2- انهيار الناتج المحلي وسعر صرف الليرة السورية أدى الى صعود جنوني في معدلات التضخم، وانهيار القوة الشرائية للرواتب والأجور ما ساهم في زيادة الفقر والعوز عند الأغلبية الساحقة من الشعب السوري.
3- انهيار الإيرادات العامة ما أتاح لبعض التجار التحكم بآليات السوق وفرض الأسعار التي تناسبهم، ما ساهم بظهور طبقة من الأثرياء وأمراء الحرب وانتشار الفساد في أوساط المجتمع.
ب- على الصعيد السياسي والاجتماعي يهدف ما يسمى “قانون قيصر” إلى تحقيق ما يلي: من خلال المساهمة في تفاقم الظروف المعيشية للسوريين ونشر الفقر والفساد على نطاق واسع، يهدف القانون إلى جعل حياة أغلبية الناس في سورية صعبة لا تحتمل من أجل إثارة الشعور لديهم بالذنب والقرف من الثبات على موقفهم في الدفاع عن بلدهم والوقوف إلى جانب دولتهم.
يهدف القانون أيضاً إلى إقناع الناس بأن مصائبهم ومشاكلهم المعيشية واليومية ليست بسبب تعرض بلدهم لعدوان خارجي طال أمده أو لحصار وإجراءات قسرية صارمة ومجحفة، وإنما نتيجة عدم كفاءة الدولة وسياستها الفاشلة وانتشار الفساد في أوساطها.
3- من خلال مساهمته في نشر الفقر والعوز والفساد، يهدف “قانون قيصر” أيضاً إلى دفع السوريين للفرار من بلدهم، وإثارة نزيف النخب والعقول من أجل تمزيق نسيج البلد وإعاقة بنائه من جديد.
4- الهدف العام والأهم لمثل هذه الإجراءات والقوانين هو كسر إرادة الشعب السوري، وحمله على قبول الشروط والإملاءات الأميركية.
ختاماً منذ آذار ٢٠١١، تتوالى الأزمات والحروب والمآسي على سورية ومن دون توقف، فبعد الخسائر الجسيمة والفادحة التي خلفتها الحرب الكونية على سورية والممتدة لأكثر من عقد من الزمن، كان على الدولة والشعب السوري تحمل أيضاً التداعيات الكارثية لأزمة كورونا الصحية، وتشديد الحصار والإجراءات القسرية، وموجات الجفاف، والحرب في أوكرانيا، وانهيار النظام المصرفي في لبنان، وخروج ثروات الجزيرة السورية عن سيطرة الحكومة بسبب سرقتها من المحتلين وميليشيا “قسد” الانفصالية، وارتفاع أسعار مواد الغذاء والطاقة في العالم خلال عام ٢٠٢٢.
اثنا عشر عاماً من حرب وإرهاب واحتلال ودمار وحصار وهجرة وتهجير وفقر وعوز وحرمان أحدثت تغييراً جوهرياً في بنية كل من الإنسان والمجتمع والدولة السورية، ومع ذلك، الأمر المفجع والحزين هو أن كل هذه الخسائر المروِّعة والمخيفة لم تكن كافية لإشباع شهية رسل الحرية المزعومة والديمقراطية وحقوق الإنسان، فبدلاً من التوقف عن زيادة معاناة السوريين ومآسيهم، صوَّت هؤلاء من جديد في نهاية العام الماضي على قانون سيكون أكثر قسوة وصرامة من سابقاته، يدعى “قانون محاربة المخدرات” بهدف ليس فقط منع السوريين من الحصول على مقومات الحياة الأساسية من ماء وغذاء وكهرباء ورعاية صحية وإنما أيضاً منعهم من شراء حتى الأدوية المهدئة لأوجاعهم وآلامهم.. المسألة إذاً هي واضحة وضوح الشمس، الحرب على سورية هي بكل بساطة حرب إلغاء وحرب وجود أو لا وجود، بمعنى إما أن تخرج سورية منتصرة من هذه المحنة أو يختفي دورها الإقليمي والدولي.
معاناة الشعب السوري التي بدأت منذ أكثر من عقد لم تنته بعد إذاً لكن هذه هي ضريبة الانتماء لوطن يعتبر من دون أدنى شك من أجمل وأعرق الأوطان، هي الضريبة نفسها التي دفعها أجدادنا منذ آلاف السنين ضد جحافل الغزاة والتي انتهت بكل مرة بدحرهم وانتصار سورية ونهوضها من جديد.
كاتب فرنسي من أصل سوري.