الملحق الثقافي- ترجمة: د. ثائر زين الدين:
تكون أو لا تكون
يتكوّن في العالم اليوم انطباعٌ بأن السياسة قد انتهت؛ على الأقل تلك التي عرفناها.. فقد خاضت الليبرالية بعناد حروباً ضدَّ أعدائها السياسيين، الذين قدموا وصفاتٍ بديلةٍ، لقد حاربت النظريات المحافظة، والملكيّة، والتقليديّة، والفاشيّة، والاشتراكيّة، والشيوعيّة -وأخيراً، في نهاية القرن العشرين، هزمت الجميع.. ومن المنطقي، والحالة هذه، أن نفترض أن السياسة ستصبح ليبراليّةً، وأن خصومها جميعاً، ممن وجدوا أنفسهم على الأطراف، سيبدؤون في إعادة التفكير في الاستراتيجيات، وتشكيل جبهة جديدة: الأطراف ضد المركز (آلان دي بينوا).. لكنَّ كلَّ شيءٍ سارَ، في بداية القرن الحادي والعشرين، وفقَ سيناريو مختلف.
إنّ الليبرالية التي طالما أصرّت على تقليص السياسة، قرّرت بعد انتصارها إلغاء السياسة كلّيّاً.. ربما لمنع تشكيل بديل سياسيٍّ، وجعل حكمها أبديّاً، أو لاستنفاد الأجندة السياسية بسبب غياب الأعداء، الذين هم، بحسب كارل شميت، ضروريّون لتشكيل موقف سياسي سليم.. على أي حال، قادت الليبرالية الأمر إلى تقليص السياسة.. وتغيّرت هي نفسها، خلال ذلك – فقد انتقلت من مستوى الأفكار، والبرامج السياسية، والإعلانات، إلى مستوى الأشياء، ودخلت جسد الواقع الاجتماعي، الذي أصبح ليبراليّاً، ولكن ليس بشكلٍ سياسيٍّ، بل معيشيٍّ، «طبيعيٍّ».. ونتيجة لهذا التحول في التاريخ، فقدت الأيديولوجيات السياسية كلُّها أهميتَها، وهي التي كانت على خلافٍ عنيفٍ مع بعضها بعضاً، على مدى القرون الماضية.
لقد هُزمت الأيديولوجيّات المحافظة، والفاشيّة، والشيوعيّة، بتنويعاتها الثانويّة المختلفة، أمّا الليبرالية المنتصرة فقد تحوّلت على الفور إلى الحياة اليوميّة، والنزعة الاستهلاكيّة والفرديّة، والأسلوب ما بعد الحداثوي للوجود شبه السياسي المُجزّأ (المجتمع المدني، المنظمات غير الحكومية… الخ). وأصبحت السياسةُ سياسةً بيولوجيّة، وانتقلت إلى المستوى الفردي والفردي الثانوي أو الفرعي.. اتضح أنْ ليس الأيديولوجيّات السياسيّة المغلوبة فحسب، من تركَ المسرح، بل السياسة بوصفها سياسةً، بما في ذلك الليبراليّة نفسها.. لذلك، توقف تشكيلُ البديل.. ووجد أولئك الذين لا يتفقون مع الليبرالية أنفسهم في موقف صعب: العدو المنتصر يتفكك ويختفي، والصراع يدور مع الهواء، كيف ينخرطون في السياسة إذن، حينما لا وجود للسياسة؟
ثمَّةَ مخرجٌ واحدُ فحسب: أن يتخلّى الخاسرون والرابحون عن النظريات السياسيّة الكلاسيكيّة – ويجهدون خيالهم، ويفهمون حقائق العالم الشامل الجديد، ويفكّون رموزَ تحديات ما بعد الحداثة بشكل صحيح، ويخلقون شيئاً جديداً؛ بعيداً عن صراعات القرنين التاسع عشر والعشرين السياسيّة.. هذا النهج هو دعوة لإعداد النظرية السياسيّة الرابعة – بعيداً عن الشيوعيّة، والفاشيّة، والليبراليّة.
لمقاربة إعداد هذه النظرية السياسية الرابعة، من الضروري:
– إعادة التفكير في التاريخ السياسي للقرون الأخيرة، انطلاقاً من مواقف جديدة، خارج أُطر الكليشيهات الإيديولوجية المعتادة للأيديولوجيّات القديمة.
– إدراك البنية العميقة للمجتمع العالمي الناشئ أمام أعيننا.
– فك شيفرة نموذج ما بعد الحداثة الفكري، بشكل صحيح.
– تعلّمُ مُناقشة ومحاكمة ليسَ فكرةً، أو برنامجاً أو استراتيجيّةً سياسيّةً، بل حالةَ الأشياءِ «الموضوعيّةَ»، وهي النسيج الاجتماعي، (لما بعد) المجتمع غير السياسي، والمشتت.
– وأخيراً، بناء نموذجٍ سياسيٍّ مستقلٍّ، يقدم مساراً، ومشروعاً في عالمٍ من الطرق المسدودة، عالمِ إعادة التدوير اللانهائيّة للمرحلة نفسها (ما بعد التاريخ، وفقاً ل: ج. بودريارد).
إنَّ هذا الكتابَ إنّما هو مخصَّصٌ للبحثِ تحديداً في الموضوعِ الآتي: مقاربة تطوير النظريّة السياسيّة الرابعة، من خلال مراجعة النظريات السياسيّة الثلاث السابقة، وكذلك بالاقتراب عن كثب من الأيديولوجيّة الرابعة للبلشفيّة- الوطنية، والأوراسيّة. هذه ليستْ عقيدةً، وليستْ نظاماً كاملاً، وليست مشروعاً مُنتهياً.. هذه دعوةٌ للإبداعِ السياسيِّ، وعرضٌ للحَدْس والتخمينات، وتحليلٌ للظروف الجديدة، ومحاولةٌ لإعادة التفكير في الماضي.
لم نتخيّل نحن النظرية السياسية الرابعة، على أنها عمل واحد، أو دورة لمؤلف واحد، بل كاتجاهٍ تشكِّلهُ مجموعةٌ واسعةٌ من الأفكار، والدراسات، والتحليلات، والتنبؤات، والمشاريع.. يمكن لأي شخص يفكر في هذا الاتجاه، أن يأتي بشيء خاص به في هذا السياق.. وبطريقة أو بأخرى، سيستجيب لهذه الدعوة مَزيْدٌ ومزيد من المثقفين، والفلاسفة، والمؤرخين، والعلماء، والمفكرين.
ومن الجدير بالذكر أن كتاب المفكر الفرنسي الكبير آلان دي بينوا، الذي نشرته أيضا دار «أمفورا» باللغة الروسية – بعنوان «ضد الليبرالية» – يحملُ عنواناً فرعيّاً: «نحو النظرية السياسيّة الرابعة».. بالتأكيد، ثمَّةَ الكثير مما يمكن أن يقال في هذا الموضوع، لليمينيين السابقين واليساريين السابقين، وربما لليبراليين أنفسهم، لفهم التغيير النوعي في نهجهم السياسي، حيث تتبخّر السياسة.
تُعدُّ النظريةُ السياسيّة الرابعةُ، بالنسبة لبلدنا، إلى جانب أمور أخرى، ذات أهمية عمليّة كبيرة.. حيث يُعدُّ الاندماج في المجتمع العالمي من قبل غالبية الروس، بمنزلةِ حدثٍ دراميٍّ، وفقدان هويَّة.. لقد رُفضت الأيديولوجيّة الليبراليّة في التسعينيّات بشكل شبه كامل من قبل السكَّان.. لكن في الوقت نفسه، من الواضح بشكل بدَهيٍّ، أن الانجذاب نحو أيديولوجيات القرن العشرين السياسية غير الليبرالية – الشيوعيَّة والفاشيّة – أمرٌ قليل الاحتمال في مجتمعنا، وقد أثبتت هذه الأيديولوجيات بنفسها تاريخيّاً، أنَّ الدفاع عنها غير ممكن في معارضة الليبرالية، ناهيك عن تكاليفِ الاستبداد الأخلاقيّة.
لذلك، تحتاجُ روسيا، من أجل ملء الفراغ الذي حدث، فكرةً سياسيّةً جديدةً.. الليبراليّة ليست مناسبة، والشيوعيّة والفاشيّة غير مقبولتين.. وبالتالي، نحن بحاجة إلى نظرية سياسيّة رابعة.. وإذا كانت المسألة بالنسبة لبعضهم تتعلق بحرية الاختيار، وتحقيق الإرادة السياسية، التي يمكن دائماً توجيهها نحو التأكيد أو الإنكار، فإن الأمر بالنسبة لروسيا، هو سؤال هاملت؛ هو مسألة حياة أو موت.
إذا اختارت روسيا أن «تكون»، فهذا يعني تلقائيّاً – تأسيس النظرية السياسية الرابعة.. خلاف ذلك، يبقى أن «لا تكون» وتترك الساحة التاريخية بهدوء، وتذوب في العالم المُعولم، الذي لم نُنشئه ولا نتحكم به.
مقدمة في النظرية السياسية الرابعة
نهاية القرن العشرين -نهاية العصر الحديث
انتهى القرن العشرون، لكننا بدأنا ندرك ذلك فعليّاً الآنَ فحسب.. كان القرنُ العشرون عصرَ الأيديولوجيات.. فإذا أدَّتِ الأديان، والسلالاتُ، وطبقات المجتمع، والدول- القوميّة، في القرون الماضية، دوراً كبيراً في حياة الشعوب، والمجتمعات، ففي القرن العشرين، انتقلت السياسة إلى المجال الأيديولوجي البحت، وأعادت رسمَ خريطةِ العالمِ، الجماعاتِ العرقيَّةَ والحضاراتِ بطريقةٍ جديدة.. لقد استوعبت الأيديولوجيات السياسيّة في داخلها، جزئيّاً، نزعات حضاريّة أعمق وأقدم، وكان بعضها مبتكراً تماماً.
كانت جميع الأيديولوجيات السياسية، التي بلغت ذروة انتشارها، وتأثيرها في القرن العشرين وليدةَ العصر الجديد، وجسَّدت روح الحداثة، وإن كان ذلك بطرق مختلفة، وحتى بسمات مختلفة.. اليوم نحن نغادر هذا العصر بسرعة.. لذلك، يتحدث الجميعُ في كثيرٍ من الأحيان، عن «أزمة الأيديولوجيات»، وحتى عن «نهاية الأيديولوجيات « (على سبيل المثال، غابَ تماماً ذكرُ أيديولوجيّة الدولة في دستور الاتحاد الروسي).. وقد حان الوقت الآن للبحث في هذه المسألة باهتمام.
الأيديولوجيات الثلاث الرئيسية في القرن العشرين ومصيرها:
كانت الأيديولوجيات الرئيسية في القرن العشرين هي:
– الليبراليّة (يمين ويسار).
– الشيوعيّة (بما في ذلك الماركسيّة، والاشتراكية، والديمقراطية الاجتماعية).
– الفاشيّة (بما في ذلك الاشتراكيّة القوميّة، وأنواع أخرى من «الطريق الثالث»: الجمعيّة النقابيّة الوطنية لفرانكو، «عدالة» بيرون، نظام سالازار، إلخ).
لقد حاربت تلك الأيديولوجيّات بعضها بعضاً ليس من أجل الحياة، بل من أجل الموت، وشكَّلت، في الواقع، تاريخ القرن العشرين السياسي الدرامي والدموي بأكمله.. ومن المنطقي ترقيمُ تسلسلِ هذه الأيديولوجيات (النظريات السياسية)، من حيث أهميتها، وترتيب ظهورها، وهو ما قمنا به أعلاه.
النظريّة السياسيّة الأولى هي الليبراليّة.. وهي التي نشأت أولاً (في القرن الثامن عشر) وتبيّن أنها الأكثر استقراراً ونجاحاً، وقد هزمت في النهاية منافسيها في صراع تاريخي.. وبهذا الانتصار، أثبتت، من بين أمور أخرى، صحة ادعائها بإكمال إرث عصر التنوير، وأصبح الأمر واضحاً اليوم: لقد كانت الليبرالية هي الأكثر توافقاً مع العصر الحديث.. على الرغم من أن هذا الأمر كان متنازعاً عليه سابقاً (بشكل درامي ونشطٍ ومقنعٍ أحياناً) من قبل نظرية سياسيّة أخرى هي الشيوعيّة.
وتسمّى الشيوعيّة بحق (مثلها مثل الاشتراكيّة بأنواعها كلّها) النظريّة السياسيّة الثانية، فقد ظهرت بعدَ الليبرالية – كرد فعلٍ نقديٍّ على تشكّل النظام البرجوازي الرأسمالي، الذي كانت الليبراليّةُ التعبيرَ الأيديولوجيَّ عنه.
وأخيراً، الفاشيّة هي النظريّة السياسيّة الثالثة.. التي تدعي أن لها تفسيرها الخاص، لروح الحداثة (ينسبُ عديدٌ من الباحثين، ولا سيّما حنّا أرند، الشموليَّةَ إلى الأشكال السياسيّة للحداثة)، وقد توجّهت الفاشيّة في الوقت نفسه، إلى أفكار ورموز المجتمع التقليدي.. أدى هذا في بعض الحالات، إلى ظهور الانتقائية، وفي حالات أخرى – إلى رغبة المحافظين في قيادة الثورة، بدلاً من مقاومتها، وقيادة المجتمع في الاتجاه المعاكس (آرثر مولر فان دن بروك ، وميريجكوفسكي د. وغيرهما).
نشأت الفاشيّةُ بعد النظريتين السياسيتين الكبريين الأخريين، واختفت قبلهما.. إن تحالفَ النظريّة السياسيّة الأولى، والنظريّة السياسيّة الثانية، وحسابات هتلر الجيوسياسية الخاطئة المدمرة للذات، دمَّرتها زمن صعودها.. ماتت النظريّة السياسيّة الثالثة «موتاً عنيفاً» دون أن ترى الشيخوخة، وتبلغَ الانحلال الطبيعيَّ (على عكس الاتحاد السوفيتي).. لذلك، فإن هذا الشبح الدموي، مصاص الدماء، المكلّل بهالة «شر العالم»، جذّاب كثيراً لأذواق ما بعد الحداثة المنحلة، وما زال يخيف البشرية كثيراً.
اختفاءُ الفاشيّة، أفسحَ في المجالِ للصراع بين النظريّة السياسيّة الأولى والثانية.. اتخذ ذلك الصراع شكل «الحرب الباردة»، وأدى إلى ظهور الهندسة الاستراتيجية لـ «عالم ثنائي القطب»، استمرَّ نحو نصف قرن.. وفي عام 1991، هزمَتْ النظريةُ السياسيّةُ الأولى (الليبرالية) الثانيةَ (الاشتراكيّةَ) كان ذلك انهيار الشيوعيّة العالميّة.
وهكذا، بحلول نهاية القرن العشرين، بقيت من بين النظريات السياسيّة الثلاث القادرة على حشد الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم، واحدة فقط – النظريّة الليبراليّة.. ولكن ما يثيرُ التساؤل هو أن الجميع مضوا يتحدَّثونَ في انسجامٍ تام، عندما أصبحت الليبراليّةُ وحيدةً، عن «نهاية الأيديولوجيات». لماذا؟
العدد 1132 – 14-2-2023