لست متأكداً إن كانت لغتنا تنفرد بحرف الضاد بين لغات العالم.. والعرف أن هذا الحرف مما يميزها، حتى ارتبط اسمها به.. غير أني متأكد أن كثيرين منا لا يزالون يذكرون بيتي الشعر الشهيرين للشاعر اللبناني حليم دموس:
لغة إذا وقعت على أسماعنا.. كانت لنا برداً على الأكباد
ستظل رابطة تؤلف بيننا.. فهي الرجاء لناطق بالضاد
فهذان البيتان المسجلان بصوت دافئ ومميز كانا يتقدمان البرنامج التلفزيوني للغوي الراحل يوسف صيداوي (اللغة والناس) وهو برنامجٌ كان يطمح لتقويم اللغة العربية على ألسنة الناطقين بها، وتجنيبهم أخطاءها الشائعة، دون أن يستشرف آفاق تلك الأخطاء التي ستشيع بعد سنوات من رحيله وتوقف البرنامج.
ومن رحمة الله على الصيداوي، وصلاح الدين زعبلاوي، وحسن قطريب وسواهم ممن عملوا عبر الإعلام المقروء والمسموع والمرئي على التقريب بين صحيح اللغة والناس، أنهم غادروا دنيانا قبل دخول ال(فيسبوك) إلى حياتنا، فما من أحد يستطيع أن يتنبأ بما ستكون عليه ردود أفعالهم، لو قرؤوا عبارة مثل« كلك زوء أستاز » قد كتبت القاف همزة واستبدلت الذال بالزاي.. أو حاولوا اكتشاف أصل كلمات استبدل فيها الضاد بالدال، أو الصاد بالسين، أو القاف بالهمزة، كأن يكتب أحدهم: « الئسة دغدت على أعسابي ».. وهو يقصد أن القصة ضغطت على أعصابه..
الإمالة والترقيق في لفظ الأحرف وباء قديم ابتلي به ساكنو المدن في اعتقادهم أنهم بهذا يصبحون أكثر مدنية وتحضراً، وقد كرسته زميلاتنا المذيعات اللبنانيات، ومشت على دربهن كثير من المذيعات العربيات اللاتي بدين وكأنهن يقمن بالترجمة الفورية عن اللغة العربية إلى اللهجة اللبنانية، وفيما بعد إلى لهجاتهن المحلية.. والحجة الجاهزة أن ذلك يجعلهن أكثر قرباً من المشاهد، أما الحقيقة المغيبة فهي أنهن لا يتقن اللغة العربية السليمة.. ولو كن قادرات على النطق الصحيح لها لما كان لدينا هذا الفصل الحاد بين مذيعات (ومذيعي) الأخبار، وسواها من البرامج التي لا تقبل بغير الفصحى، وبين مذيعات (ومذيعي) المنوعات وبعض البرامج الحوارية..
وكما للأوبئة والأمراض السارية مراحل متصاعدة، كذلك الحال بالنسبة ل (الوباء اللغوي) والمرحلة الجديدة منه التي تنتشر اليوم بين أبناء الجيل الجديد على (الفيسبوك) هي كتابة اللغة العربية بأحرف لاتينية.. هذا الوباء بدأ بريئاً مع الجيل الأول من أجهزة الهاتف المحمول التي دخلت إلى عالمنا العربي بأحرف لاتينية فقط، ما اضطر أصحابها إلى كتابة رسائلهم الهاتفية بتلك الأحرف، وسريعاً ما انتفى السبب بعد أن قامت شركات تصنيع الهواتف المحمولة بإنتاج أجهزة تستخدم اللغة العربية لتلبية متطلبات الأسواق العربية، أحد أكثر أسواقها شراهة واستهلاكاً.
غير أن عقد الشعور بالنقص تجاه الدول المتقدمة، والتقليد الأعمى، والتطور المشوه، دفع بكثيرين من أبناء (الأجيال الصاعدة) لاستعادة تجربة كتابة العربية بالأحرف اللاتينية على (الفيسبوك) رغم معرفتهم الأكيدة أن الأحرف اللاتينية لا تلبي الحاجة لفقدانها الكثير من الأحرف المقابلة لأحرف في اللغة العربية كالهمزة والعين والحاء والخاء والصاد والضاد، فاستبدلوا تلك الأحرف بأرقام في عمل عبثي لا يملك مبررات منطقية، لكن له آثاره الخطيرة في تكريس القطيعة بين الناس ولغتهم.. أي بين الناس وثقافتهم.. أي بين الناس وتاريخهم.. أي بين الناس وهويتهم..
ولن يصعب على متمعن إدراك نتائج هذا..
لأن اللغة ليست مجرد وسيلة للتحادث.
السابق
التالي