الملحق الثقافي:
الترجمة حياة جديدة للفكر والثقافة والإبداع، وهي جسر التواصل مع العالم وفي العالم، وقديماً شغف العرب بالترجمة، ومن لايترجم يبقى فكره متجمداً متيبساً، ومن هنا كانت الترجمة بكل ألوانها حياة وتجدد، ولكن هل الترجمة خيانة للنص كما يقال إبراهيم المليفي يتناول ذلك في حديث الشهر بمجلة العربي حديث الشهر العدد 773 حيث يرى أن عبارة «أيها المترجم… أيها الخائن» تعود إلى زمن الامبراطورية الرومانية التي كانت تحكم أجزاء كثيرة من العالم متباينة الثقافات ومتعددة الألسنة، لذلك كانت في حاجة دائمًا إلى المترجمين، لا ليترجموا الكلمات فقط، ولكن لإخبارهم بكل ما يعرفونه عن أقوامهم وعن مواطن قوتهم ونقاط ضعفهم، ومنذ أن نقلت هذه العبارة من اللاتينية إلى اللغات الأخرى، وقد أصبح يستشهدون بها، وكذلك كان الأمر في البلدان المحتلة، وكان يوصم بالخيانة كل مَن يعرف لغة غير لغته.
مَن منا لا يعرف كتاب «كليلة ودمنة»، ذلك الكتاب الساحر الذي عبر العصور إلينا مميزًا وسط كتب التراث العربي، يتناول موضوعًا مهمًا وجريئًا عن العلاقة بين الحكام والمحكومين، ولكن الذي جعله يعيش طويلًا وينجو من المصادرة أو الحرق هو أنه يحتوي على مجموعة من القصص الخرافية تدور كلها على ألسنة الطيور والحيوانات، وأتاح له هذا الشكل أن تطلق حكمها وأحكامها دون تحفظ أو خشية من أعين أنصار السلطة.
وكان هذا الكتاب سببًا في شهرة كاتبه عبدالله بن المقفع، الذي عاش في العصر العباسي، وقتَله والي البصرة غيلة، رغم الشهرة فهو ليس مؤلف هذا الكتاب، فهو يكتب في الصفحة الأولى منه أنه من تأليف بيدبا الفيلسوف الهندي الذي كتبه بتكليف من أحد ملوك الهند، ولكن الكتاب الأصلي اختفى، ولم يبق لدينا إلا النسخة التي ترجمها ابن المقفع، وبواسطتها انتشر الكتاب في كل أنحاء العالم وترجم من العربية إلى كل اللغات، المترجم هنا ليس خائنًا، ولا تنطبق عليه تلك العبارة الشهيرة، فهو لم يحافظ على النص من الزوال فقط ولكن بعث فيه حياة جديدة جعلته خالدًا.
ولكننا نعرف الآن أن الترجمة عمل نبيل يقوم على نقل الثقافات بين الشعوب المختلفة ويقرب بين العقول المتباعدة، وربما كان المقصود بها في الأعمال الأدبية أن اللغة نسيج مترابط، فإذا نقلت إلى لغة أخرى واستبدلت ألفاظها بغيرها اختل هذا النسيج، ومن المستحيل أن ينقل أي مترجم النص الأصلي بما فيه من سحر وتوهج، ولكن هذا لا يقلل من أهمية هذه المهنة التي تأخذ الكثير من روح من يقوم بها وتجعله يلوذ بالصمت حتى يبرز ما يقوله الآخرون من كلمات، فالمؤلف الأصلي يجيء دائمًا بالمرتبة الأولى بينما لا يتجاوز المترجم المرتبة الثانية وربما هبط عنها.
والترجمة أنواع، هناك الترجمة المعجمية التي تتقيد بحدود القاموس وتكتفي بتفسير معاني الكلمة، وهناك المترجم الشامل الذي يفهم روح النص ويبحث خلف ظروف إنتاجه الاجتماعية والزمانية، ويزود نصه بالهوامش التي توضح الأسماء والمعالم المختلفة ويجعل النص نابضًا بالحياة، وهو يبذل جهدًا لا يقل عن الجهد الذي يبذله المؤلف الأصلي.
الخونة فعلًا
أجل… هناك بين المترجمين مَن هو خائن فعلًا، ففي زمن الاضطرابات وسقوط المدن يظهر دائمًا مَن يعشق المحتل ويسعى إلى خدمته رغمًا عن أنف بني جلدته، والخدمة دائمًا تكون مركّبة، لا تكتفي بترجمة الكلمات ولكنها تفتح السبيل للتعاون التام، حدث هذا في كل الحروب، ومن الغريب أنه لا يوجد مَن يستفيد من دروس التاريخ السابقة، فهؤلاء المترجمون يعيشون في أول الأمر في لحظة الانبهار بقوة الدولة المحتلة ويعتقدون أن الواقع الذي خلقته على الأرض هو مَن سيدوم للأبد، وينبهر المترجمون بالأموال الكثيرة التي يغدقها عليهم المحتل، والسلطة التي يمتلكونها فجأة، ولكن يأتي اليوم الذي يحمل فيه المحتل عصاه ويرحل، ويجد المترجم نفسه وحيدًا بلا سند ولا حماية، وعليه أن يدفع فاتورة كل ما ارتكبه جنود الاحتلال، وقد حدث هذا في مصر أثناء الحملة الفرنسية، فقد ارتبطت زينب البكري بنت زعيم الأشراف بالفرنسيين، تعلمت لغتهم بسرعة وظهرت في صحبة جنودهم، وقيل إنها كانت عشيقة نابليون بونابرت شخصيًا، ولكن عندما فشلت الحملة ورحل الفرنسيون وجدت نفسها وحيدة في مواجهة الغضب العارم للعامة ورغبتهم في الانتقام، فقد قبضوا عليها وقطعوا رقبتها، ومازال تعبير «مقصوفة الرقبة» يتداول حتى الآن.
وفي العصر الحديث عاش أهل فيتنام الجنوبية هذه المأساة على نطاق واسع، فقد خاضت أميركا حربًا استمرت لسنوات ضد جارتهم الشمالية، وارتبط عدد من سكان فيتنام بالجنود من خلال القيام بالترجمة وتقديم التسهيلات الجنسية، وكالعادة اضطر الأميركيون للرحيل المتعجّل عند بوادر الهزيمة، ووجد المتعاونون والمترجمون أنفسهم في مأزق، لم يكن النظام الشيوعي الجديد يريدهم، ونظرًا لأعدادهم الكبيرة فلم يكن قادرًا على قتلهم، وكان الحل أنهم وضعوهم جميعًا في قوارب وألقوهم في عرض البحر، القليل منهم وصل إلى شاطئ، ولكن معظمهم غاص في أعماق المحيط.
لم تكن هذه النهاية المأساوية بعيدة، والجماعات المتشرذمة استطاع الأميركيون النفاد عليها بسهولة ولم يعدموا مَن يتعاون معهم عندما دخلوها ورحّبوا بهم، ويبدو أن المترجمين والمتعاونين قد قاموا بواجبهم على أفضل وجه، فقد لبثت القوات الأميركية لمدة عشرين عامًا بفضلهم، وقد بالغوا وتعدى دورهم في الترجمة إلى حمل السلاح حماية لأنفسهم وللمشاركة في مهام الاستطلاع وتقديم المعلومات إلى الجيش الأميركي، ويقال إن عددهم قد بلغ سبعين ألف مترجم ومتعاون مع أسرهم.
وقد ثارت مشكلة أخلاقية في أميركا عندما قرّرت أن ترحل عن أفغانستان وتترك خلفها هذا الجيش من المترجمين، وخاصة أن ميلشيات طالبان قد استهدفتهم، ففي كل مدينة تقتحمها كان أول مهامها هي القبض عليهم وقتلهم، وقد هددت بذلك صراحة حتى قبل جلاء القوات الأميركية، وقد عرض البعض على أميركا أخذهم ووضعهم في أحد الجزر وسط المحيط، لكن أعدادهم الكبيرة مثلت مشكلة في نقلهم واستقرارهم، وكان الحل النهائي هو أن تتركهم لمصيرهم، لذلك شاهدنا الصور المأساوية لهم وهم يحاولون التعلق بإطارات الطائرات وهي تقلع من المطار، ولم يصل من كل هذا العدد الهائل إلى أميركا إلا 200 فرد فقط، والبقية تعيش في كابوس لم ينته حتى الآن.
يوم عالمي للمترجم
في الأوساط الأدبية يعد المترجم خائنًا على سبيل المجاز لأنه لا يفلح أبدًا في نقل المحتوى الأصلي لأي نص إلا بتحريف وزيادة ونقصان وتبديل في المعاني أحيانًا، لدرجة قيلت فيها العبارة الشهيرة «أيها المترجم… أيها الخائن»، ولكنها قيلت في أجواء السلام والصالونات الثقافية على المقاعد الوثيرة، ولكن بعيدًا عن تعبيرات الخيانة والمشاكل السياسية فقد شاءت الأمم المتحدة أن تكرّم هذه المهنة النبيلة وخصصت اليوم العالمي للمترجم في 30أيلول من كل عام، وهو يتوافق مع عيد القدّيس «جيروم» الذي قام بترجمة الكتاب المقدس من العبرية والسريانية القديمة إلى اللغة اللاتينية في القرن الرابع الميلادي، وقد قضى سنوات عديدة في أقبية كنيسة المهد في فلسطين ليفك ألغاز اللغات القديمة ويقدم للكنيسة أول ترجمة دقيقة، وأضاف بذلك أول مرجع لاهوتي مازالت الكنيسة الغربية تستعين به حتى الآن، وأكّد بذلك على الدور الكبير الذي يقوم به المترجم في خدمة الدين والتقريب بين العقول والثقافات.
إنها مهنة صعبة رغم أنها لا تتعلق إلا بالكلمات، فالمترجم يدرك أن الانتقال من لغة إلى لغة يعني الانتقال من لسان إلى آخر، ومن تراكيب لغوية مرتبطة بتاريخ الكلمة وتراثها الشعبي إلى تراث مختلف، وحتى يكون المترجم ناجحًا عليه كما تقول فاطمة ناعوت: بالنسبة لي أؤمن بأن المترجمَ عليه كذلك، أن يُمارسَ لونًا من «الحلول الصوفي» في شخص الأديب الذى ينقلُ عنه أدبَه. بمعنى أن «يحلَّ المترجِمُ في شخصِ المُترجَم عنه»: يدخل حياتَه ويلمسَ ظرفَه السياسي والاجتماعي والعاطفي ويعيشَ مشاكلَه؛ حتى يشعرَ بما شَعُرَ به لحظةَ كتابة النص.
ترجمة الشعر
ولكن تبقى معضلة الترجمة في نقل الشعر من لغة لأخرى، ويرى الشاعر العربي أدونيس أن من المستحيل نقل الشعر، وهو يتفق في ذلك مع الرأي القديم الذي نادى به الجاحظ: «والشعر لا يُستطاع أن يُترجم ولا يجوز عليه النقلُ، ومتى حُوّل تقطّع نظمُه وبطل نظمُه وذهب حسنُه وسقط موضعُ التعجّب منه. وصار كالكلام المنثورِ»، فهل نخون الشعر عند ترجمته، أم نأخذ بنصيحة الجاحظ ونمنع ترجمته؟ ولكن في ثقافتنا الحديثة لا يمكن مقاطعة هذا العنصر المهم من الإبداع والذي تحرص مؤسسة نوبل على تخصيص جائزة له، ولكن الأمر يتطلب نوعًا من الخيانة البسيطة، علينا أن نتخلى عن الوزن والإيقاع في القصيدة الأصلية ونركّز على ما فيها من مضمون إنساني، سوف تفقد القصيدة الكثير من شكلها ولكنها على الأقل ستحتفظ بجزء مهم من مضمونها، ويجب التخلي عن المفاهيم السائدة حول الخيانة والأمانة والتعامل مع الإيقاع بمفهوم أوسع، ويصرّ العديد من النقّاد أن الشعراء هم الأجدر بترجمة الشعر لأنهم الأقدر على تذوّق النص، والوصول إلى المغزى الخفي الذي يقصده الشاعر الأصلي، فالمترجم في هذه الحالة يقوم بما يشبه الإبداع الموازي، فالشعر هو ذروة الإبداع الإنساني لأنه يعبّر عن مكنون النفس وما يدور في أعماقها من أفكار وعواطف.
الترجمة هي حقًا مهنة نبيلة كما يصرّ البعض على وصفها، يقوم بها أفراد موهوبون، يجيدون أكثر من لغة ويمتلكون معارف واسعة تؤهلهم لفك مغاليق النص الموجود أمامهم وفهم رموزه ومعرفة جغرافيته، ومنذ أن أنشأ المأمون دار الحكمة في بغداد القديمة، وقد فتح أمام الفكر العربي آفاقًا واسعة من الأفكار والثقافات العالمية بفضل الترجمة .
العدد 1142 – 2-5-2023