الملحق الثقافي- دلال إبراهيم:
لم يتفاجأ جيانغ رونغ الكاتب الصيني (واسمه الحقيقي لو جيامين)بالنجاح الباهر الذي حققته روايته (الطوطم الذئب) بخلفيتها الأسطورية، وبنيتها السردية الموغلة في القدم والأصالة الصينية بتعدديتها. فقد كان مقتنعاً أنه سيكون لها امتدادها العالمي. ولا زالت روايته الفائزة بجائزة مان الأدبية الآسيوية – البوكر الآسيوي – تحطم الأرقام القياسية في المبيعات. وتحتل أفضل الروايات مبيعاً في بلده الأصلي الصين، حيث فاق عدد النسخ المباع منها 50 مليون نسخة وتم ترجمتها إلى أكثر من 30 لغة. وتصبح على هذا النحو في المرتبة الثانية في الصين بعد كتاب ماو الأحمر. ويعترف الكاتب في إحدى مقابلاته النادرة بأنه كرس أكثر من 30 عاماً لأبحاثه، واستغرق في كتابة الرواية وهي الأولى في إصداراته 6 سنوات.
من هو الذئب الطوطم أو كما تم ترجمته إلى العربية (رمز الذئب)؟ إنها ملحمة أو أشبه بسيرة ذاتية «للشاب شين زهين الذي غادر طواعية بلدته بايجنغ في الصين متوجهاً إلى منغوليا، في بداية الثورة الثقافية في الصين، ليتعلم هناك وعدد من الطلبة أمثاله، كيف بنى شعباً بسيطاً- المغول- امبراطورية عظيمة في التاريخ. وعلى أثر مرافقته لقبيلة مغولية بدوية لمدة عامين، يكتشف هذا الصيني المنتمي إلى طبقة المثقفين في البراري الشاسعة، طريقة جديدة للحياة، حياة البداوة، ويلتقي بالذئاب التي لها قدسيتها لدى شعب المغول. بحيث ورغم حبهم للذئب فإنهم في صراع دائم معه، المعركة ذات طبيعة روحية بين الناس الرحل والذئب الضاري الذي يحكم السهوب، وهم في انسجامهم القاسي والصعب معه منذ آلاف السنين، يقدسونه ويتعلمون منه. ينصبون الفخاخ له ويقتلونه ثم يتركونه في مكانه للطبيعة، لـ (تنجر) وهو اسم الأرض عندهم، الأرض التي تحكم البشر والذئاب معا وتثيبهم. بالمقابل عندما يموت المرء تترك جثته في العراء لتأكلها الذئاب فتكتمل الدورة. فالذئب الطوطم هو معلم وخصم. يُصطاد ويفترس. انبنت الرواية على ركيزتين أساسيتين: أولا المغامرة التي تنشأ فيها كل التصادمات الطبيعية بين البشر فيما بينهم، وبين المحيط القاسي الذي يحتضنهم. ثانيًا السيرة الذاتية للكاتب، لأن جيانغ رانغ استعاد في هذه الرواية جزءًا من تاريخه الشخصي. فهو يقوم بتوصيف مسار الطالب شين زهين الذي نفي في فترة الثورة الثقافية 1967، إلى منغوليا الداخلية. في البداية يخيل الى القارئ أن زهين وزملاءه الطلبة في تعارض مع بيلجي- معلمهم الروحي – والذئاب، والأرض. غير أننا نكتشف بأن هؤلاء الشباب معنيون كثيراً بأسلوب حياة المغول. وإذا ما كانوا أحياناً يخرقون العادات رغبة في التعلم فإنا نراهم أخيراً يجتمعون مع مضيفيهم في الركن الذي يتيح الموازنة بين البشر والذئب والأرض.هذا الكتاب ذو الحجم الكبير مملوء بأفكار زهين عن التاريخ الصيني والثقافة الصينية، وخصوصاً، أفكاره عن كيفية غزو الجماعات المختلفة بعضها بعضاً بطرق مختلفة وأزمنة مختلفة. عمل هو والطلبة الآخرين كرعاة غنم وسائسي خيول، مشاركين في صراعات حياة الترحال من أجل البقاء باستنساخ سلوك الذئاب. إن لقاءات زهين مع الذئاب توقظ فيه الغريزة البدائية. وقد اعتمد الكاتب على اللحظات الأكثر حساسية في مسار حياته، إذ استعاد مصائر الكثير من الطلبة المثقفين الذين اقتنعوا بضرورة عيش حياة شعبية وطبيعية تمنعهم من الابتذال والسقوط في شرك الحياة البورجوازية السهلة. بطل الرواية عاش إحدى عشرة سنة بوصفه من الحرس الأحمر. شديد الاقتناع بأن الثورة كانت في خطر. لهذا ظل رهانه الأسمى، أن يكون قريباً من الشعب. هناك اكتشف أن علاقة الشعب المنغولي بالذئب ممزوجة بقسوة الحياة والاحترام، ليست اعتباطية ولكنها جزء من النظام العام الذي يحدد لمنغوليا الواسعة مفهومها للحرية والانطلاق. عالم غني، تخترقه الأساطير التي يتماهى فيها الواقعي بالتخييلي.
من خلال الدفاع عن رمزية الذئب الوجودية، تحولت الرواية إلى وسيلة لمناهضة أعداء الطبيعة. لا عداوة ضد الذئب في هذه الرواية. صحيح أنه حيوان قاس وصعب المراس، لكنه أيضاً مشبع بالحرية وقادر على الموت من أجلها. في الظروف الصعبة، يتأقلم بين العيش فرديًا، والعيش في الجماعة التي يمكنه الدفاع عنها أيضًا حتى الموت. بحيث يزهر الانبهار بها في قلب البطل إلى درجة يصبح مهووساً باكتناز أكبر قدر من المعلومات عن الذئاب.
رواية (الطوطم الذئب) تذكرنا بالحوت الأبيض في تحفة موبي ديك التي رسمها هيرمان ملفيل. أو رواية الشيخ والبحر لهمنغواي. رواية تجسد ذاكرة الشعب المنغولي القادم من سلالة ذئبية أكبر، كما تقول الأساطير: جنكيز خان، والمعروف بمقاومته لصعوبات الطبيعة والمدافع باستماتة عن حيزه الحيوي. ونجزم من خلال قراءتها أن لا أمة منغولية ستكون قامت دون فلسفة الذئب.
وفي النهاية وبحكم زحف المدنية تتحول السهوبَ المعشوشبةَ إلى صحارى. وحينما يعود زهين إلى منغوليا وهو في منتصف العمر يكتشف أن أسلوب الحياة الذي بجله ومجده يوماً قد انتهى تقريباً، وأن الشعب الذي أرعب العالم في زمن من الأزمان وبغياب الذئاب كثرت حيوانات كالفئران لتشكل وباء، والغنم البري التهم العشب حتى تحولت المروج إلى صحارى تبعث بعواصف غبار كثيف يغطي مدينة بايجنغ ويحجب القمر أحياناً. ولنكتشف في آخر الصفحات أننا قرأنا رواية عن الطبيعة، تطرح قضية فلسفية تدور حول منطقين، طالما كانا موضع جدل عبر العصور لدى كافة الأمم، وهي (قضية الذئب والغنم) فمن جهة يمثل الذئب، حيث جعل منه المنغول طوطمهم، الشجاعة والمقاومة والحرية. ومن جهة أخرى يمثل الغنم الخضوع الخوف والضعف. ويمكننا كذلك أن نقسم الرواية منذ المقطع الأول إلى صراع متناقضات… التطور ضد المحافظة، الجديد ضد القديم.
ربما جاء نجاح الرواية على خلفية الجدل الذي أثارته، مع عدم إنكار جمالياتها الأدبية. فقد رأى البعض في الرواية التي رواها جيانغ رونغ مجرد رواية مغامرات، أغوته الملحمة في السهوب المنغولية. أنصار البيئة كتبوا عنها أنها (أعظم رواية بيئية) آخرون قالوا عنها إنها دراسة إثنوغرافية على مجموعة من القساوسة المنغوليين. وحلت الرواية محل كتاب فن الحرب Sun Tzu على الطاولة بجانب أسرة رواد الأعمال الديناميكيين، الذين قرؤوا فيها اعتذارًا عن روح المنافسة. وبالمقابل، وعلى خلفيتها صدرت العديد من الأبحاث التجارية – أطلقوا عليها اسم أطروحة الذئب – تدعو للانطلاق نحو غزو الغرب اقتصاديًا بروح شرسة مثل روح الذئب للفوز بعالم تهيمن عليه روح المنافسة، أو أن تصبح رجلًا عصاميًا.
العدد 1149 – 27-6-2023