الملحق الثقافي- فاتن دعبول:
كثيراما نتداول مقولة :إن حربنا مع الغرب وخصوصاً الغرب المعادي، هي حرب ثقافية، ويتضح ذلك في التغييرات التي تطرأ على الشعوب العربية من تغيير في السلوكيات والمعتقدات والمفاهيم، ما يؤكد تأثيره الكبير في غزو الشعوب العربية ثقافياً، وربما ساهمت الحروب العسكرية في هذا الغزو سابقاً، واليوم تلعب وسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات الحديثة الدور نفسه وربما هو الأخطر.
ولكن في ظلّ التحالفات الجديدة وإعادة تشكيل العالم من جديد، ربما بدأ هذا الدور يتراجع، فهل حقاً بدأ الغرب يفقد هيمنته الفكرية والثقافية، وما الأسباب التي تساهم في هذا التراجع إن كان تراجعاً حقيقياً وليس وهماً.
ومن أجل الوقوف على حقيقة ما يجري في العالم، توجهنا بالسؤال إلى عدد من الكتاب والمفكرين، والبداية كانت عند د. سليم بركات الباحث وعضو اتحاد الكتاب العرب، يقول :
للمؤسسات الاجتماعية دورها
إن الهيمنة الثقافية تشير إلى معنى السيطرة والتحكم بالوسائل الإيديولوجية، وعادة ما يتم تحقيقها من خلال المؤسسات الاجتماعية التي تسمح لمن هم في موقع الهيمنة والسيطرة بالتأثير بقوة على سلوكية المجتمع من حيث القيم والمعايير والأفكار والتوقعات النظرية والعملية، وتروّج هذه الهيمنة بطريقة شمولية تفرضها الطبقة المهيمنة للسيطرة اجتماعياً واقتصادياً على أنها عادلة وشرعية ومصممة لصالح المجتمع بحسب وجهة نظرها.
علما أن فوائد هذه الطريقة في الترويج لا تعود بالفائدة إلا على الطبقة المهيمنة فقط، وهذا النوع من التسلط يختلف عن التحكم بالقوة، لأنه يسمح للطبقة المهيمنة بممارسة سلطتها وهي تستخدم جميع الوسائل السلمية، باختصار الهيمنة الثقافية هي الاتفاق الضمني بين البشر على تطبيق معتقدات وقيم الطبقة المهيمنة الحاكمة بغض النظر عن نشأتهم البشرية وتجاربهم الاجتماعية.
وأوضح بدوره أن الفيلسوف الإيطالي» أنطونيو غرامشي» 1891، 1937 هو من طوّر هذا المفهوم» الهيمنة الثقافية، معتمداً نظرية كارل ماركس القائلة بأن الإيديولوجيا المهيمنة تعكس معتقدات ومصالح الطبقة الحاكمة من خلال السيطرة على المؤسسات الاجتماعية مثل المدارس والكنائس والمحاكم ووسائل الإعلام، لأن هذه المؤسسات هي من تقوم بعمل التنشئة الاجتماعية ضمن معايير وقيم ومعتقدات الفئة الاجتماعية المسيطرة هذا من جهة.
ومن جهة أخرى اعتماد غرامشي في تطوير هذا المفهوم على تبرير الرأسمالية الغربية، ومضمونه أن أولئك الذين نجحوا اقتصادياً قد كسبوا ثروتهم بطريقة عادلة ومنصفة، وإنّ من يكافحون اقتصادياً يستحقون دولتهم الفقيرة، إنه الشأن الصحيح للفطرة السليمة من وجهة نظر ليبرالية.
فرض الثقافة البديلة
وأضاف بركات: إن مفهوم الهيمنة الثقافية من حيث الشكل الخارجي مفهوم واسع ومشتت، يختلف الباحثون فيه، لكن تحديده الإجرائي يرتكز على التسلط والإكراه وتقليد المغلوب للغالب كما يقول ابن خلدون، ومثال على ذلك ما تقوم به الهيمنة الغربية الاستعمارية من خلال احتلالها واستغلالها للشعوب الأخرى، دون أن تحرك هذه الشعوب ساكناً لمواجهتها.
أما الشكل الخفي للهيمنة الثقافية فيحدد في اتجاهين خارجي وذاتي، الخارجي تبرز فيه الخطط الاستعمارية الاستراتيجية طويلة الأمد، والذاتي تبرز فيه الآليات الخفية المتحكمة بالعقل بشكل لا شعوري، وهي من أهم أشكال التسلط والهيمنة والأشدّ خطورة من السيطرة الاستعمارية.
الهيمنة الثقافية ظاهرة ترمي إلى نشر ثقافة الطرف المهيمن كبديل عن الثقافة القائمة، والغاية سيادة نموذج واحد للتفكير، ونشر قيم بديلة تعطل الإبداع، كما تفعل الثقافة الغربية وفي طليعتها الأميركية المهيمنة على العالم، والتي تقوم على الحياد الفردي، الخيار الشخصي، والاعتقاد بالطبيعة البشرية التي لا تتغير إلا من خلال غياب الصراع الاجتماعي المؤدي للاستسلام للشركات المستغلة التي تستبعد الصراع الاجتماعي ،ولاسيما في عصر العولمة المؤدي إلى عالم منكمش أو منضغط الزمان والمكان والذي أدى إلى ظهور نظام عالمي جديد وتقسيم متفاوت ومستقطب تبرز فيه الموارد المالية وتكنولوجيا المعلومات متخطيّة الحدود باستخدام الإنترنت مثلاً.
توصف الهيمنة الأميركية اليوم على أنها مرتكزة على ثلاث ركائز» الجبروت العسكري، القوة الاقتصادية، القوة الناعمة» وتعد القوة العسكرية من حيث الوعي السبب الأكثر أهمية لانحدار أي قوة عظمى، وهذا يعني أن من أسباب تراجع الهيمنة الأميركية هو تعرضها للتحدي في النظام الدولي، ولاسيما من قبل الصين وروسيا والهند، وكذلك موقفها من العالم في إطارعدم المساواة الذي يفصل ثروتها المتعاظمة عن فقر الآخرين، والذي يتطلب توقفها عن أهدافها الغامضة وغير الواقعية فيما يخص حقوق الإنسان المخترقة من قبل الهيمنة الأميركية بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى.
من هنا نستنتج تفاقم العوامل الداخلية والأزمات البنيوية وعبثية النظام الليبرالي الذي تعيشه أميركا، والذي يسبب في انهيارها من الداخل، وأن الديمقراطية التي تدعيها وتروجها لا معنى لها في ظلّ هيمنة الطبقة الأميركية الرأسمالية، ونحن لا نبالغ عندما نقول :إن المذاهب غير المنطقية التي تستخدمها السياسة الخارجية الأميركية للدفاع عن نفسها، والمتضمنة توسع تحالفاتها العسكرية، إنما هي للهيمنة العسكرية على العالم.
كما لا نجانب الحقيقة أيضاً إذا قلنا :إن أميركا لن تكتفي بهذه التحالفات، بل أنشأت الحكومات الوصية لتطويق الدول التي تعاديها كما تفعل مع روسيا والصين وفنزويلا وفيتنام وإيران وسورية وأجزاء أخرى من العالم، على الرغم من تكاليف هذا الإنشاء، الأمر الذي يستوجب على الأميركيين البدء في الاستعداد لمستقبل متعدد الأقطاب، بالابتعاد عن اعتمادهم الغريزي على القوة الصارمة والإكراه، وهذا لا يكون إلا بإعطاء الديبلوماسية الحقيقية والسلمية دوراً كبيراً.
الشعوب تقاوم
ويضيف بركات: ما تفعله أميركا من تدمير للمواضيع المهمة والحساسة في المجتمعات البشرية مثل تدميرالهوية وممارسة العنصرية والاستبداد والعمل على إفقار الشعوب والسيطرة والفوضى والدمار، كل ذلك يدفع الشعوب لمواجهة أميركا وتحدي أخطارها وإلى عالم ما بعد أميركا والذي قد يكون الوصول إليه عن طريق القوة أو السلام، كيف لا ودول كثيرة تتحرك لتحقيق مصالحها بعيداً عن الولايات المتحدة الأميركية كروسيا التي لم تفعل حتى الآن سوى القليل لرد الأعداء في الحرب الأوكرانية.
كيف لا والإمبراطورية الأميركية قد أصبحت مثل الاتحاد السوفييتي السابق منهمكة بأخطائها وهي تعيش على اعتقاد عفا عليه الزمن وهو أن لديها من المعرفة والقوة ما يغير العالم إذا استخدمت هيمنتها العسكرية والاقتصادية لتغيير المجتمعات الأخرى.
ويخلص د. سليم بركات إلى القول :إنه بعد أن تفرّدت الولايات المتحدة الأميركية بالطاقات والخبرات من شتى دول العالم، لتحقق أعظم نهضة تكنولوجية وأعظم اقتصاد عالمي، تقوم اليوم بتحطيم كلّ إنجازاتها بتوحش وغباء، وهذا هو جوهر موقفها من الصين وروسيا والهند وإيران وحتى أوروبا، وباقي دول العالم، وفي الطليعة سورية.
الأمر الذي جعلها في مواجهة العالم بأسره، لتكون كغيرها من الإمبراطوريات التاريخية في أطوار من الصعود والأفول، وقد لا تهزم من قوة خارجية تؤدي لسقوطها، ولكن قد تهزم من الداخل، كيف لا والشعب الأميركي يعاني ما لا يمكن حصره وعده من الظلم في الداخل الأميركي، ومن المرجح أن نظاماً عالمياً جديداً قد يفسح المجال للشعب الأميركي في بناء حضارة أميركية جديدة وبعيدة عن الخرافة الحضارية الأميركية الحالية، القائمة على المركزية الإمبريالية الصهيونية، وثقافتها المتوحشة المعادية لشعوب العالم.
العدد 1149 – 27-6-2023