غالباً ما كانت الحروب تنشب لأسباب سياسية أو جيوسياسية، ومنها الحرب الدائرة في أوكرانيا والتي أرجع الروس أسبابها للحفاظ على الأمن القومي الروسي وحماية سكان إقليم دونباس ذوي الأصول والثقافة الروسية، فيما قرأها الغرب بشفتيه على أنها تدخل في إطار سعي روسيا والرئيس بوتين لإعادة إنتاج الامبراطورية الروسية ولملمة بعض أطراف الاتحاد السوفييتي السابق ضمن روسيا جديدة، وإنه في ذلك تهديد للأمن الأوروبي وإعادة رسم للخريطة الأوروبية التي استقرت ضمن حدودها الحالية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يستثنى من ذلك ما حدث للاتحاد اليوغسلافي قبل ثلاثة عقود وما انتهى إليه من تقسيم يوغسلافيا إلى خمس دول.
وبعيداً عن الروايتين ومصداقيتهما من عدمها، فالواضح أن الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية وجدا في تلك العملية العسكرية المحدودة وفق الرواية الروسية فرصة لاستنزاف روسيا التي عادت بقوة إلى المشهد الدولي ولاسيما بعد نجاحها في سورية ودعمها لها ما ساعدها في هزيمة مشروع كان يستهدفها ويستهدف المنطقة على وجه العموم إعمالاً لما سمي شرق أوسط جديد وفوضى خلاقة، وكذلك تدخلها في القارة الإفريقية للجم الاندفاعة الفرنسية هناك وكذلك استعادة روسيا لدورها الفاعل في مجلس الأمن ووقوفها في وجه قرارات استهدفت دولاً صديقة لروسيا ومنها سورية والحيلولة دون صدورها ممهورة بطابع دولي وأممي ما يشرعن سياسات الهيمنة الأميركية على الدول التي لا تصطف في الرتل الأميركي.
لقد استثمرت الولايات المتحدة الأميركية حتى الآن ما يجري في أوكرانيا أفضل استثمار، فهي استغلت تلك الحرب لإعادة الروح لحلف الناتو الذي بدا في السنوات الأخيرة من غير مبرر في ظل غياب وحل حلف وارسو وسيادة القطب الواحد وسقوط الحاجة لمظلة نووية أميركية لحماية أوروبا من (الخطرالسوفييتي) إبان الحرب الباردة حيث ظهرت أصوات أوروبية تطالب بحل الحلف لما يرتبه من أكلاف اقتصادية وعسكرية وسياسية على الدول الأوروبية إضافة إلى أن الخطاب السياسي الروسي أخذ يشير للدول الأوروبية بشركائنا الأوروبيين هو ما أزعج المطبخ السياسي الأميركي الذي يسعى دائماً لعسكرة العلاقات الدولية ولاسيما ما تعلق منها بكل من جمهورية الصين الشعبية والاتحاد الروسي المصنفين في التقرير السنوي لحالة الاتحاد والأمن القومي الأميركي على أنهما أشد خصوم بل وأعداء الولايات المتحدة الأميركية، وإلى جانب توسيع حلف الناتو بانضمام دول أخرى إليه ولاسيما تلك المحاذية لروسيا انتعشت مصانع السلاح الأميركي التي تتحرك عجلتها وفق حمامات الدم وارتفعت أسعار النفط بشكل كبير، وكذلك أسعار القمح إذا علمنا أن أميركا هي من منتجيه ومصدريه الكبار إضافة لأوكرانيا وكندا وأستراليا وهي جميعاً من حلفاء أميركا التقليديين.
وبالعودة للعنوان وهو الحروب هي مفاوضات ساخنة من الواضح أن الولايات المتحدة الأميركية تسعى لعدم كسب روسيا للحرب أو ما سمي العملية العسكرية المحدودة وفق الرواية الروسية لأن روسيا ستفرض شروطها بهذه الحالة على أوكرانيا وداعميها ما يشكل هزيمة تاريخية ونهاية عملية للقطب الواحد وولادة نظام قطبية ثلاثية أميركا الصين الشعبية والاتحاد الروسي الأمر الذي يعني بداية نهاية العصر الأميركي أو ما بشر به منظرو ما سمي القرن الأميركي ليو شتراوس وفرانسيس فوكوياما وصموئيل هاتنغتون إضافة إلى نهاية سيطرة الدولار الأميركي على النظام المالي العالمي بوصفه أحد أهم عوامل الهيمنة الأميركية على السوق الاقتصادية والسياسية العالمية ما يعني بالنتيجة سقوط الفكرة الأميركية القائمة على أزعومة النموذج الأميركي السياسي والثقافي أي أمركة العالم عبر العولمة أو لنقل الأمركة.
إن ما جرى ويجري في أوكرانيا لا يمكن قراءته استراتيجياً على أنه قضية تتعلق باستعادة كيلومترات مربعة أو حماية لسكان ينتمون للثقافة الروسية أو حفاظاً على الأمن القومي الروسي فقط، وإنما أنه سعي وعمل من أجل وضع حد للعصر الأميركي وطي لصفحة القطب الواحد وبداية إرهاصات أولى لعالم متعدد الأقطاب ونظام عالمي جديد يقوم على الشراكة والتفاعل والتنمية التي تستفيد منها كل شعوب العالم وليس الغرب وحده عالم يقوم على الفكرة الصينية المدعومة من قوى عالمية وازنة وشعوب عانت من عصرالاستعمار وهي الاستقرار البناء والتنمية بديلاً من الفكرة الأميركية الأوروبية المسماة الفوضى الخلاقة ورافعتها الحروب والصراعات والاقتتال.