الملحق الثقافي- عبير عبد اللطيف البحش:
إنَّه عالمٌ آخر مختلفٌ تماماً عن العالم.. جزءٌ من مدينةٍ خياليةٍ.. رسمها مبدعٌ حالم.. لا كذب ولا نفاق، فهذا عالمٌ طفوليٌّ بامتياز.
هذا العالم هو الأجدر أن نقدّم له النّصوص ونكتب له الشّعر؛ فالطّفلُ هو الأقدرُ على تذوّق هذه القصائد البيضاء، وهو الأقدر على تمييز الأجمل.
قليلة هي الكتابات التي استطاعت أن ترقى لمستوى أناقة هذا العالم؛ وقلّةٌ هم الشعراء الذين خاضوا غمار التجربة.. وتسلّلوا إلى الداخل؛لسبرأغوار الطفل والتحدث عنه والكتابة له بلغته البسيطة، التي تبحر في زورقٍ من خيال شراعه الموسيقا التي تنقلنا إلى عالم من الأغنيات؛ إنه الشاعر صالح هواري شاعرٌعربيٌّ فلسطينيُّ الجنسيَّة والمولد… سوريّ المنشأ.. وبما أنّه قضى سنوات عمره ملتزماً قضايا وطنه نازفاً جراحات شعبه، فقد جاءت قصائدُه كشجر الزيتون تشبُّثاً بالأرض.. جاءت قصائده لترسم لنا ملامحَ فلسطين الحلوة.. إلا أنه ومن وعيه بأهمية الطفولة.. وأنّ هؤلاء الصغارهم أمل أمَّتنا ومستقبلها، لم يبخل بكلمات جاءت كقرص العسل تمد يدها لنسافر معها في قطار من الفرح.. ولأنّه معلّمٌ منذ البداية فإن ظلال المربي ترتسم أفكاراً تربويةً حاذقة بين سطوره وفي ثنايا كلماته فها هو بروح الأب والمعلم يشكّل تلك العجينة لتصبحَ آيةً من آياتِ الحب وتتغلغل في نفوسِ ملائكتنا الصغار؛ حاملةً لهم رسائل شتَّى بدأها برسالة حبٍّ للوطن حين قال:
بلادنا أحلى بلاد بالروح تُفدى والفؤاد
نحبها وحبها كل نهار في ازدياد
بلادنا أغلى بلاد
أمَّا من ناحية البناء الفني للقصيدة فإنَّ شاعرنا استخدم الأوزان القصيرة والبحور الغنائية التي تلائم الطفل؛
كما أنه اختار قافية سهلة وحرص على سكونها ليتسنى للأطفال حفظها بسهولة فالقافية الساكنة أرسخ في ذاكرة الطفل.. أما كلماته فقد أتت بسيطة مأنوسة وخفيفة؛ شكَّلت بعداً فنيّاً رائعاً كما في قصيدة الدّيك والكنار:
ذات يومٍ يا صغار غار ديكٌ من كنار
ذاك يعلو ويطير وهو في الخم أسير
نفش الريش وقال: ادنُ مني وتعال
ما أحلى هذه الكلمات القريبة من الواقع المتداولة في الوسط الطفوليّ .. لكنّ ذوق الشاعر الفني قد تدخّل في اختيارها؛ إضافة إلى براعته اللّغوية لتوظيف السّهل الممتنع.. فتلك السهولة ترتدي ثياب الصنعة.. فتأتي الكلمات والعبارات واضحة.. بسيطة جداً جداً.. ما يقربها إلى أذهان التلاميذ ويحفظونها حفظاً سريعاً.. كل ذلك يدل على قدرة الشاعر على التعامل مع اللغة.. هناك شعراءيستخدمون لغة الكبار للأطفال ما يبعد القصيدة عن الطفل.. أما هذه المفردات الطفولية فقد أطلت علينا من هذه القصائد بأبهى الصور!!.
ثم تأتي رسالته الثانية وما أحوجنا بعد سنوات الحرب إلى رسالة حبٍّ تحمل وردة وتغرس أملآ وسعادةً.. هاهي كلماته تأتي كنبتة فاصولياء سحرية تخترق الغيم ونصعد معها إلى أعلى سماء في قصيدة الحبُّ عطاء.حيث يقول:
ما أجمل أن نحيا سعداء لا حقد يسود ولا بغضاء
أزهار الخير تظللنا في دنيا تغمرها الأضواء
للخير نعمر أعشاشاً ونرد عن الكون الظلماء
نزرع ورداً نشعل شمعاً نعطي نعطي فالحب عطاء
من نفس الطين تشكلنا وتكونا من نفس الماء
مابين غنيٍّ وفقير لا فرق فكلّ الناس سواء
كلماته تمدُّ رأسها لتطلَّ أنيقة مرهفة.. تليق بذكاء الطفل؛ وتحترم عقله الواعي، فنرى أمامنا لوحةً فنيةً منمقة ترفل بأروع الصور
الشّمس أطلّت في يدها سلّة
تتمايل فوق الأرض المحتلّة
من دم هذا الطّفل تغزل وردة
من دم ذاك الشّبل تقطف فلة
نعم إنها ريشة في يد مبدع ترسم للأطفال عالمهم وتلوّنه بالضّوء كما في قصيدة أصابع الشمس:
أصابع الشمس خيوطها مغزل
أرخت على الأبواب وشاحها المخمل
فقد وظّف الاستعارة هنا ليفتح للأطفال نافذة الخيال… ولأنه شاعر أصيل نراه منصاعاً للقصيدة العربية في جوهرها حتى لو ركب موجة التجديد والحداثة.. فها هو يستخدم التصريع في معظم القصائد.. فتزيد القصيدة بهاءً وموسيقا كمافي قوله إذ يخاطب عامل الكهرباء:
هلا هلا ومرحبا بعامل الكهربا
يسعى إلى رزقه يعمل حتى يكسبا
العدد 1152 – 25-7-2023