ديب علي حسن
ربما سيمضي زمن طويل قبل أن يجود المشهد الإبداعي العربي بقامات مثل : نزار قباني وبدوي الحيل وسليمان العيسى ومحمود درويش الذي تمر هذه الأيام ذكرى رحيله.
الشاعر الذي ملأ الساحة الفكرية والثقافية إبداعا ونقاشا منذ أن خرج من الأرض المحتلة وبعد ذلك في تحولاته الفكرية في منجزه الشعري .. تحولات يراها البعض ضرورية وآخرون يرونها خارج سياق الالتزام بمنجزه الإبداعي الذي نذره للقضية الفلسطينية ..ويرى بعض الدارسين أن ملحمته ( مديح الظل العالي ) كانت نهاية المطاف في الالتزام ويستشهدون على ذلك بما قاله في إحدى حواراته من أنه لو أتيح له أن يحذف نصف شعره لفعل وأنه الآن يبحث عن الشعر الصافي .
وقد تجلى ذلك في مجموعاته الأخيرة التي لاقت نقدا واسعا بعضه معها وبعضه الآخر رآها خارج سياق تجربته النضالية.
وإذا خرجنا من إطار هذا الجدل علينا أن نشير إلى أنه قدم اروع القصائد إلى دمشق ..
ودمشق هي العروبة ومن باب الوفاء لكبرياء دمشق وذكرى رحيله نقتبس من قصيدته قوله :
:في دِمَشْقَ ,
تطيرُ الحماماتُ
خَلْفَ سِياجِ الحريرِ
اُثْنَتَيْنِ….
اُثْنَتَيْنِ….
في دِمَشْقَ ,
أَرى لُغَتي كُلَّها
على حبَّة القَمْحِ مكتوبةً
بإبرة أُنثى ,
يُنَقِّحُها حَجَلُ الرافِدَيْن
في دِمَشْقَ ,
تُطَرَّزُ أَسماءُ خَيْلِ العَرَبْ ,
مِنَ الجاهليَّةِ
حتى القيامةِ ,
أَو بَعْدها ,
….بخُيُوطِ الذَهَبْ
في دِمَشْقَ:
تسيرُ السماءُ
على الطُرُقات القديمةِ
حافيةً , حافيةْ
فما حاجةُ الشُعَراءِ
إلى الوَحْيِ
والوَزْنِ
والقافِيَةْ ؟
في دِمَشْقَ ,
ينامُ الغريبُ
على ظلّه واقفاً
مثل مِئْذَنَةٍ في سرير الأَبد
لا يَحنُّ إلى بَلدٍ
أَو أَحَدْ…
في دِمَشْقَ ,
يُواصل فِعْلُ المُضَارِع
أَشغالَهُ الأُمويَّةَ:
نمشي إلى غَدِنا واثِقِينَ
من الشمس في أَمسنا.
نحن والأَبديَّةُ ,
سُكَّانُ هذا البَلَدْ!
في دِمَشْقَ ,
تَدُورُ الحوارات
بين الكَمَنْجَةِ والعُود
حَوْلَ سؤال الوجودِ
وحول النهاياتِ :
مَنْ قَتَلَتْ عاشقاً مارقاً
فَلَهَا سِدْرَةُ المنتهى !
في دِمَشْقَ ,
يُقَطِّعُ يوسُفُ ,
بالنايَ ,
أَضْلُعَهُ
لا لشيءٍ ,
سوى أَنَّهُ
لم يَجِدْ قلبَهُ مَعَهُ
في دِمَشْقَ ,
يَعُودُ الكلامُ إلى أَصلِهِ ,
اُلماءِ:
لا الشِعْرُ شِعْرٌ
ولا النَثْرُ نَثْرٌ
وأَنتِ تقولين : لن أَدَعَكْ
فخُذْني إليك
وخُذْني مَعَكْ !
في دِمَشْقَ ,
ينامُ غزالٌ
إلى جانب اُمرأةٍ
في سرير الندى
فتخلَعُ فُسْتَانَها
وتُغَطِّي بِهِ بَرَدَى !
في دِمَشْقَ ,
تُنَقِّرُ عُصْفْورَةٌ
ما تركتُ من القمحِ
فوق يدي
وتتركُ لي حَبَّةً
لتُريني غداً
غَدِي!
في دِمَشْقَ ,
تدَاعِبُني الياسمينةُ :
لا تَبْتَعِدْ
واُمشِ في أَثَري
فَتَغارُ الحديقةُ :
لا تقتربْ
من دَمِ الليل في قَمَري
في دِمَشْقَ ,
أُسامِرُ حُلْمي الخفيفَ
على زَهْرة اللوزِ يضحَكُ :
كُنْ واقعياً
لأُزهرَ ثانيةً
حول ماءِ اُسمها
وكُنْ واقعيّاً
لأعبر في حُلْمها !
في دِمَشْقَ ,
أُعرِّفُ نفسي
على نفسها :
هنا , تحت عَيْنَيْن لوزيِّتَيْن
نطيرُ معاً تَوْأَمَيْن
ونرجئ ماضِينَا المشتركْ
في دِمَشْقَ ,
يرقُّ الكلامُ
فأسمع صَوْتَ دمٍ
في عُرُوق الرخام :
اُخْتَطِفْني مِنَ اُبني
تقولُ السجينةُ لي
أَو تحجَّرْ معي !
في دِمَشْقَ :
أَعدُّ ضُلُوعي
وأُرْجِعُ قلبي إلى خَبَبِهْ
لعلِّ التي أَدْخَلَتْني
إلى ظِلِّها
قَتَلَتْني,
ولم أَنْتَبِهْ…
في دِمَشْقَ ,
تُعيدُ الغريبةُ هَوْدَجَها
إلى القافِلَةْ :
لن أَعودَ إلى خيمتي
لن أُعلِّقَ جيتارتي ,
بَعْدَ هذا المساءِ ,
على تينة العائلةْ…
في دِمَشْقَ ,
تَشِفُّ القصائدُ
لا هِيَ حِسِّيَّةٌ
ولا هِيَ ذهْنيَّةٌ
إنَّها ما يقولُ الصدى
للصدى…
في دِمَشْقَ ,
تجفُّ السحابةُ عصراً ,
فتحفُرُ بئراً
لصيف المحبِّينَ في سَفْح قاسْيُون ,
والنايُ يُكْملُ عاداته
في الحنين إلى ما هُوَ الآن فيه ,
ويبكي سدى
في دِمَشْقَ ,
أُدوِّنُ في دفْتَرِ اُمرأةٍ :
كُلُّ ما فيكِ
من نَرْجسٍ
يَشْتَهيكِ
ولا سُورَ حَوْلَكِ, يحميكِ
مِنْ ليل فِتْنَتِكِ الزائدةْ
في دِمَشْقَ’
أَرى كيف ينقُصُ ليلُ دِمَشْقَ
رويداً رويداً
وكيف تزيدُ إلهاتُنا
واحدةْ!
في دِمَشْقَ ,
يغني المسافر في سرِّه :
لا أَعودُ من الشام
حياً
ولا ميتاً
بل سحاباً
يخفِّفُ عبءَ الفراشة
عن روحِيَ الشاردةْ