الثورة – ديب علي حسن:
لم يشغل مفكر عربي الوسط السياسي والثقافي الغربي كما إدوارد سعيد المفكر والناقد الذي استطاع أن يفكك رؤى الغرب الاستعمارية ويعريها ويبطل أدواتها كما فعل هو في كتابه الذائع الصيت الاستشراق الذي سيبقى مرجعاً مهماً لا يمكن المحيد عنه لمن يريد معرفة رؤية الغرب للشرق.
وثمة كتاب آخر أثار النقاش هو مذكراته التي حملت عنوان خارج المكان .
في هذا الكتاب يتتبع سيرة حياته من فلسطين إلى القاهرة الى الغرب.
هذا الكتاب أثار غضب الكيان الصهيوني واللوبيات التي تعمل معه فعمدوا إلى محاولة طمس تاريخه وتاريخ العائلة العربية الجذور التي عاشت في فلسطين.
وفي الكتاب يتوقف عند انحراف سارتر عن نهجه المؤيد للقضايا العربية وكيف سيطر عليه مدير أعماله الصهيوني.
وفي قراءة معمقة للكتاب نشرت وكالة وفا تحليلاً عميقاً للكتاب يقول:
(وفي حالة إدوارد سعيد، نجده منذ الفصل الأول لكتابه يلخص لنا ملابسات ذلك الوضع الوجودي المقلق لحياته: “وقع خطأ في الطريقة التي تم بها اختراعي وتركيبي في عالم والدي وشقيقاتي الأربع. فخلال القسط الأوفر من حياتي المبكرة، لم أستطع أن أتبين ما إذا كان ذلك ناجماً عن خطأي المستمر في تمثيل دوري أو عن عطب كبير في كياني ذاته. وقد تصرفت أحياناً تجاه الأمر بمعاندة وفخر. وأحياناً أخرى وجدت نفسي كائناً يكاد أن يكون عديم الشخصية وخجولاً ومتردداً وفاقداً للإرادة غير أن الغالب كان شعوري الدائم أني في غير مكاني”.
ويعود في المقطع الأخير من كتابه ليشير إلى نزعة التشكيك التي هي إحدى الثوابت التي يتشبث بها، والتي تجعله غير مقتنع على الدوام.
“والواقع أني تعلمت، وحياتي مليئة إلى ذلك الحد بتنافر الأصوات أن أؤثر ألا أكون سوياً تماماً، وأن أظل في غير مكاني”.
هل المنفى مقولة الجغرافيا ـ مقولة التغيير في المكان ـ فحسب؟ أم هو التباس قسري على مستوى السيكولوجيا، وشرخ في الوعي ومن ثم تحول في الرؤية إلى الذات والعالم؟.
“أرجوك لا تتخذ هذا القرار!”.
هكذا خاطب باسترناك، الرئيس السوفييتي حينها “خوروشوف” عندما راحت الصحافة الشيوعية تطالب بنفيه بعدِّه عدواً للدولة السوفييتية “السابقة” بعد حصوله على جائزة نوبل للآداب. وتم إجباره على مغادرة روسيا فلم يطق الابتعاد فانتحر في البرازيل، وخرج ريمارك خفية من ألمانيا النازية لينجو بجلده. وغادر إدوارد سعيد القدس في ظروف أشد تعقيداً ليجد نفسه أخيراً في أمريكا، وهناك فرض نفسه مثقفاً ومفكراً من طراز ممتاز. حورب من قبل اللوبي الصهيوني، وجرى الاحتفاظ به، أيضاً، جزءاً من الديكور الديمقراطي الأمريكي.. تكيف، واستغل وضعه بحنكة وذكاء فصار هاجساً يقض مضاجع الطارحين لوجهة النظر الصهيونية هناك.
في كتابه “الاستشراف: المعرفة.. السلطة.. الإنشاء” قام بتفكيك وتقويض طروحات المستشرقين فأثار لغطاً وردود فعل من قبل أولئك الذين يتحصنون في مواقعهم الأكاديمية الراسخة، وهم يظنون أنهم بمنجى عن أي نقد جاد وفاعل يمكن أن يزعزع مواقعهم تلك. وفي كتابه “تغطية الإسلام” فضح الآليات التي تتحكم بصناعة صورة الإسلام في وسائل الإعلام الأمريكية، ونجح كذلك في تقديم وجهة نظر فلسطينية، موضوعية، مقنعة في الراديو والتلفاز والصحافة.
تظهر إشكالية حضور إدوارد سعيد في الوسط الأكاديمي الثقافي الأمريكي في كونه عربياً ـ فلسطينياً ـ مسيحياً، حاصلاً على الجنسية الأمريكية، ومثقفاً ثقافة عصرية عميقة، متمثلاً أفكار ومناهج عتاة رجال الفكر والفلسفة الغربيين، ومن ثم عارضاً لوجهة نظر في قضايا العالم ـ وبخاصة القضية الفلسطينية ـ لابد أن تكون مسموعة، وتؤخذ بنظر الاعتبار والجدية.
أن يكتب مفكر مثل إدوارد سعيد سيرته، معناه أنه لا يزال يبحث عن هوية وجوده ـ تلك التي تشكلت بتضافر ظروف ومعطيات وشروط متشابكة ومعقدة، ولا تزال لم تستقر بعد ـ تلك الهوية على ماهية قارة، أو صورة أخيرة. ذلك أن الهوية ليست شيئاً جامداً نهائياً، بل حالة تستمر في التكون والتشكل ما دام الإنسان يحيا وينتج. وتتجلى الأهمية المزدوجة لسيرة إدوارد سعيد [خارج المكان] في أنها مكتوبة في مكان الآخر “الغرب”، أقصد في المنفى، ذلك الذي ينعته سعيد بأنه” أحد أكثر الأقدار مدعاة للكآبة” وهي كتابة عن الموطن الأول/ مرتع الطفولة ـ الأماكن التي شهدت تكوين الشخصية والذاكرة.. هذا من جانب، ومن جانب آخر فهذه السيرة هي استجابة واعية ومتحدية ضد الموت، كما ذكرنا آنفاً.
“غير أن الدافع الرئيس لكتابة هذه المذكرات هو طبعاً حاجتي إلى أن أجسر المسافة، في الزمان والمكان، بين حياتي اليوم وحياتي بالأمس.. أرغب فقط في تسجيل ذلك بما هو واقع بدهي دون أن أعالجه أو أناقشه، علاوة على أن انكبابي على مهمة إعادة تركيب زمن قديم وتجربة قديمة قد استدعى شيئاً من البُعاد ومن السخرية في الموقف والنبرة”.