استشراف مستقبل اللغة العربية

الملحق الثقافي- وفاء يونس:                            

كانت مجلة الهلال المصرية قبيل منتصف القرن الماضي قد استفتت اراء المبدعين العرب حول مستقبل اللغة العربية ، ومن هؤلاء جبران خليل جبران الذي أجاب على أسئلتها الاستشرافية برؤيا مازالت قائمة وصالحة على الرغم من مرورما يقارب القرن عليها.
أولاً: ما هو مستقبل اللغة العربية؟
إنما اللغة مظهر من مظاهر الابتكار في مجموع الأمة، أو ذاتها العامة، فإذا هجعت قوة الابتكار توقفت اللغة عن مسيرها، وفي الوقوف التقهقر، وفي التقهقر الموت والاندثار.
إذاً فمستقبل اللغة العربية يتوقف على مستقبل الفكر المبدع الكائن أو غير الكائن في مجموع الأمم التي تتكلم اللغة العربية. فإن كان ذلك الفكر موجوداً كان مستقبل اللغة عظيماً كماضيها، وإن كان غير موجود فمستقبلها سيكون كحاضر شقيقتها السريانية والعبرانية.
-وما هذه القوة التي ندعوها بقوة الابتكار؟
هي في الأمة عزم دافع إلى الأمام. هي في قلبها جوع وعطش وشوق إلى غير المعروف، وفي روحها سلسلة أحلام تسعى إلى تحقيقها ليلاً ونهاراً، ولكنّها لا تُحقق حلقة من أحد طرفيها إلا أضافت الحياة حلقة جديدة في الطرف الآخر. هي في الأفراد النبوغ وفي الجماعة الحماسة، وما النبوغ في الأفراد سوى المقدرة على وضع ميول الجماعة الخفيّة في أشكال ظاهرة محسوسة. ففي الجاهلية كان الشاعر يتأهب لأن العرب كانوا في حالة التأهب، وكان ينمو ويتمدد أيام المخضرمين لأن العرب كانوا في حالة النمو والتمدد، وكان يتشعب أيام المُولدين لأن الأمة الإسلامية كانت في حالة التشعب. وظلّ الشاعر يتدرج ويتصاعد ويتلون فيظهر آناً كفيلسوف، وآونة كطبيب، وأخرى كفلكي، حتى راود النعاس قوة الابتكار في اللغة العربية فنامت وبنَومِها تحول الشعراء إلى ناظمين، والفلاسفة إلى كلاميين، والأطباء إلى دجَّالين، والفلكيُّون إلى منجمين.
إذا صح ما تقدّم كان مستقبل اللغة العربية رهن قوة الابتكار في مجموع الأمم التي تتكلمها، فإن كان لتلك الأمم ذات خاصة أو وحدة معنوية وكانت قوة الابتكار في تلك الذات قد استيقظت بعد نومها الطويل كان مستقبل اللغة العربية عظيماً كماضيها، وإلا فلا.
ثانياً: وما عسى أن يكون تأثير التمدين الأوروبي، والروح الغربية فيها؟
إنما التأثير شكل مِن الطعام تتناوله اللغة من خارجها فتمضغه وتبتلعه وتحول الصالح منه إلى كيانها الحي كما تُحول الشجرة النور والهواء وعناصر التراب إلى أفنان فأوراق فأزهار فثمار. ولكن إذا كانت اللغة من دون أضراس تقضم ولا معدة تهضم، فالطعام يذهب سدى بل ينقلب سمّاً قاتلاً. وكم من شجرة تحتال على الحياة وهي في الظل فإذا ما نُقلت إلى نور الشمس ذَبُلت وماتت. وقد جاء: من له يُعطى ويزاد ومن ليس له يؤخذ منه.
وأما الروح الغربية فهي دور من أدوار الإنسان وفصل من فصول حياته. وحياة الإنسان موكب هائل يسير دائماً إلى الأمام، ومن ذلك الغبار الذهبي المتصاعد من جوانب طريقه تتكون اللغات والحكومات والمذاهب، فالأمم التي تسير في مقدّمة هذا الموكب هي المبتكِرة، والمبتكِر مؤثر؛ والأمم التي تمشي في مؤخرته هي المقلِّدة، والمقلِّد يتأثر. فلما كان الشرقيون سابقين والغربيون لاحقين كان لمدنيتنا التأثير العظيم في لغاتهم. وها قد أصبحوا هم السابقون وأمسينا نحن اللاحقون، فصارت مَدَنِيَّتُهم، بحكم الطبع، ذات تأثير عظيم في لغتنا وأفكارنا وأخلاقنا.
بيد أن الغربيين كانوا في الماضي يتناولون ما نطبخه فيمضغونه ويبتلعونه محوِّلين الصالح منه إلى كيانهم الغربي، أما الشرقيون في الوقت الحاضر فيتناولون ما يطبخه الغربيون ويبتلعونه، ولكنّه لا يتحول إلى كيانهم، بل يحولهم إلى شبه غربيين، وهي حالة أخشاها وأتبرم منها؛ لأنها تبين لي الشرق تارةً كعجوز فقد أضراسه وطوراً كطفل من دون أضراس!
إن روح الغرب صديق وعدوٌّ لنا؛ صديق إذا تمكنا منه وعدوٌّ إذا وهبنا له قلوبنا، صديق إذا أخذنا منه ما يوافقنا وعدو إذا وضعنا نفوسنا في الحالة التي توافقه.
ثالثاً: وما يكون تأثير التطور السياسي الحاضر في الأقطار العربية؟
قد أجمع الكتَّاب والمفكرون في الغرب والشرق على أن الأقطار العربية في حالة التشويش السياسي والإداري والنفسي، ولقد اتفق أكثرهم على أن التشويش مجلبة الخراب والاضمحلال.
أما أنا فأسأل: هل هو تشويش أم ملل؟
إن كان مللاً فالملل نهاية كلّ أمة وخاتمة كلّ شعب، الملل هو الاحتضار في صورة النعاس، والموت في شكل النوم.
وإن كان بالحقيقة تشويشاً فالتشويش في شرعي ينفع دائماً لأنه يبين ما كان خافياً في روح الأمة ويبدل نشوتها بالصحووغيبوبتها باليقظة، ونظير عاصفة تهز بعزمها الأشجار لا لتقلعها، بل لتكسر أغصانها اليابسة وتبعثر أوراقها الصفراء. وإذا ما ظهر التشويش في أمة لم تزل على شيء من الفطرة، فهو أوضح دليل على وجود قوة الابتكار في أفرادها، والاستعداد في مجموعها. إنما السديم أول كلمة من كتاب الحياة وليس بآخر كلمة منها، وما السديم سوى حياة مشوَّشة.
إذاً: فتأثير التطور السياسي سيحوِّل ما في الأقطار العربية من التشويش إلى نظام، وما في داخلها من الغموض والإشكال إلى ترتيب وألفة، ولكنّه لا ولن يُبدل مللها بالوجد وضجرها بالحماسة. إن الخزاف يستطيع أن يصنع من الطين جرة للخمر أو للخل، ولكنّه لا يقدر أن يصنع شيئاً من الرمل والحصى.
رابعاً: هل يَعمُّ انتشار اللغة العربية في المدارس العالية وغير العالية وتُعَلَّمُ بها جميع العلوم؟
لا يعم انتشار اللغة في المدارس العالية وغير العالية حتى تُصبح تلك المدارس ذات صبغة وطنية مجردة. ولن تُعلَّم بها جميع العلوم حتى تنتقل المدارس من أيدي الجمعيات الخيرية واللجان الطائفية والبعثات الدينية إلى أيدي الحكومات المحلية.
ففي سورية مثلاً كان التعليم يأتينا من الغرب بشكل الصدقة، وقد كنا ولم نزل نلتهم خبز الصدقة؛ لأننا جياع متضورون، ولقد أحيانا ذلك الخبز، ولما أحيانا أماتنا؛ أحيانا لأنه أيقظ جميع مداركنا ونبَّه عقولنا قليلاً؛ وأماتنا لأنه فرق كلمتنا وأضعف وحدتنا وقطع روابطنا وأبعد ما بين طوائفنا حتى أصبحت بلادنا مجموعة مستعمرات صغيرة مختلفة الأذواق متضاربة المشارب، كلّ مستعمرة منها تشدّ في حبل إحدى الأمم الغربية وترفع لواءها وتترنم بمحاسنها وأمجادها.
فالشاب الذي تناول لقمة من العلم في مدرسة أميركية قد تحوّل بالطبع إلى معتمد أميركي، والشاب الذي تجرع رشفة من العلم في مدرسة يسوعية صار سفيراً فرنسيّاً، والشاب الذي لبس قميصاً من نسيج مدرسة روسية أصبح ممثلاً لروسيا إلى آخر ما هناك من المدارس وما تُخَرِّجُه في كل عام من الممثلين والمعتمدين والسفراء. وأعظم دليل على ما تقدم اختلاف الآراء وتباين المنازع في الوقت الحاضر في مستقبل سورية السياسي.
فالذين درسوا بعض العلوم باللغة الانكليزية يريدون أميركا أو انكلترا وصية على بلادهم؛ والذين درسوها باللغة الفرنسية يطلبون فرنسا أن تتولى أمرهم؛ والذين لم يدرسوا بهذه اللغة أو بتلك لا يريدون هذه الدولة ولا تلك، بل يتبعون سياسة أدنى إلى معارفهم وأقرب إلى مداركهم.
وقد يكون ميلنا السياسي إلى الأمة التي نتعلم على نفقتها دليلاً على عاطفة عرفان الجميل في نفوس الشرقيين، ولكن، ما هذه العاطفة التي تبني حجراً من جهة واحدة وتهدم جداراً من الجهة الأخرى؟ ما هذه العاطفة التي تستنبت زهرة وتقتلع غابةً؟ ما هذه العاطفة التي تحيينا يوماً وتميتنا دهراً؟
إن المحسنين الحقيقيين وأصحاب الأريحية في الغرب لم يضعوا الشوك والحسك في الخبز الذي بعثوا به إلينا، فهم بالطبع قد حاولوا نفعنا لا الضرر بنا. ولكن، كيف تَوَلَّد ذلك الشوك ومن أين أتى ذلك الحسك؟ هذا بحث آخر أتركه إلى فرصة أخرى.
نعم، سوف يعم انتشار اللغة العربية في المدارس العالية وغير العالية، وتُعَلَّم بها جميع العلوم فتتوحد ميولنا السياسية وتتبلور منازعنا القومية؛ لأن في المدرسة تتوحد الميول، وفي المدرسة تتجوهر المنازع. ولكن، لا يتم هذا حتى يصير بإمكاننا تعليم الناشئة على نفقة الأمة. لا يتم هذا حتى يصير الواحد منا ابناً لوطن واحد بدلاً من وطنين متناقضين أحدهما لجسده والآخر لروحه. لا يتم هذا حتى نستبدل خبز الصدقة بخبز معجون في بيتنا؛ لأن المتسول المحتاج لا يستطيع أن يشترط على المتصدق الأريحي، ومن يضع نفسه في منزلة الموهوب لا يستطيع معارضة الواهب، فالموهوب مسير دائماً والواهب مخير أبداً.
خامساً: وهل تتغلب (اللغة العربية الفصحى) على اللهجات العامية المختلفة وتوحدها؟
إن اللهجات العامية تتحور وتتهذب ويُدْلَكُ الخَشِنُ فيها فَيَلِينُ؛ ولكنها لا ولن تغلب — ويجب ألا تُغلب — لأنها مصدر ما ندعوه فصيحاً من الكلام ومنبت ما نعده بليغاً من البيان.
إن اللغات تتبع، مثل كل شيء آخر، سُنة بقاءِ الأنسب، وفي اللهجات العامية الشيء الكثير من الأنسب الذي سيبقى؛ لأنه أقرب إلى فكرة الأمة وأدنى إلى مرامي ذاتها العامة. قلت: إنه سيبقى وأعني بذلك أنه سيلتحم بجسم اللغة ويصير جزءاً من مجموعها.
لكلّ لغة من لغات الغرب لهجات عامية، ولتلك اللهجات مظاهر أدبية وفنية لا تخلو من الجميل المرغوب والجديد المبتكَر، بل في أوروبا وأميركا طائفة من الشعراء والموهوبين الذين تمكنوا من التوفيق بين العامي والفصيح في قصائدهم وموشحاتهم، فجاءت بليغة ومؤثرة. وعندي أن في «الموَّال و«الزجل» و«العتابا» و«المعنى» من الكنايات المستجدة والاستعارات المستملحة والتعابير الرشيقة المستنبطة ما لو وضعناه بجانب تلك القصائد المنظومة بلغة فصيحة، والتي تملأ جرائدنا ومجلاتنا، لبانت كباقة من الرياحين بقرب رابية من الحطب، أو كسرب من الصبايا الراقصات المترنمات قبالة مجموعة من الجثث المحنطة.

العدد 1172 – 19 -12 -2023  

آخر الأخبار
السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص السبت القادم… ورشة عمل حول واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر والصغيرة وآفاق تطويرها مدير "التجارة الداخلية" بالقنيطرة: تعزيز التشاركية مع جميع الفعاليات ٢٧ بحثاً علمياً بانتظار الدعم في صندوق دعم البحث العلمي الجلالي يطلب من وزارة التجارة الداخلية تقديم رؤيتها حول تطوير عمل السورية للتجارة نيكاراغوا تدين العدوان الإسرائيلي على مدينة تدمر السورية جامعة دمشق في النسخة الأولى لتصنيف العلوم المتعدد صباغ يلتقي قاليباف في طهران انخفاض المستوى المعيشي لغالبية الأسر أدى إلى مزيد من الاستقالات التحكيم في فض النزاعات الجمركية وشروط خاصة للنظر في القضايا المعروضة جمعية مكاتب السياحة: القرارات المفاجئة تعوق عمل المؤسسات السياحية الأمم المتحدة تجدد رفضها فرض”إسرائيل” قوانينها وإدارتها على الجولان السوري المحتل انطلقت اليوم في ريف دمشق.. 5 لجان تدرس مراسيم و قوانين التجارة الداخلية وتقدم نتائجها خلال شهر مجلس الشعب يقر ثلاثة مشروعات قوانين تتعلق بالتربية والتعليم والقضاء المقاومة اللبنانية تستهدف تجمعات لقوات العدو في عدة مواقع ومستوطنات “اللغة العربيّة وأثرها في تعزيز الهويّة الوطنيّة الجامعة”.. ندوة في كلية التربية الرابعة بالقنيطرة