الثورة – هفاف ميهوب:
يرى الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي “إدغار موران” أن التقدّم التقني الذي مكّن العالم من صناعة أسلحة دمارٍ نوويّة وكيماويّة وبيولوجيّة، بات يهدّد هذا العالم ويقوده إلى الهاوية.. بات أيضاً، وبعولمته للثقافة والفكر والإنسانية والاقتصاد والأسواق، يزيد من تناسلِ الأزمات، والفوضى والفقر والموت، وغير ذلك مما لا يضبطه فكر أو تردعه أخلاق.
إنها رؤيةٌ، أكثر ما دفعه لتبيان خطورتها، اهتمامه بمصير الإنسان والعالم، وشعوره بأن العولمة باتت تشكّل تهديداً بنهاياتٍ، يجب السعي ما أمكن لتفاديها وإنقاذ البشر من كارثيّتها.
حتماً، هي ليست رؤيته وحده، بل رؤية كثر من الكتّاب والباحثين والمفكرين المهتمّين، ممن باتوا يشعرون بأن العالم بأكمله، قد وقع في “فخّ العولمة”، ولاسيما عولمة الاقتصاد التي سلّعت كلّ ما في الحياة، وحوّلتها إلى سوقٍ تحكمها الآلة المهيمنة.
يبدو أن العالم يسير فعلاً إلى الهاوية، وهو رأي وافق الباحثين الألمانيين “هانس بيتر ” و”هارولد شومان” على تبنّيه، وبعد أن تلمّسا ما تلمّسه “موران” من خطورة العولمة، وسلبياتها التي تناولاها في كتابٍ اعتبراها فيه:
“زادت الفوارق بين البشر، وأصبحت نظرية الخُمُس الثري بمثابةِ الحتميّة التاريخية.. عشرون في المائة من السكان يمتلكون الثروة، وثمانون في المائة فائضون عن الحاجة.. لقد قلّصت التكنولوجيا فرص العمل، وألغت دور الدولة الاجتماعي، واقتضت المديونية أن تنضبط الحكومات بصرامةٍ أمام مؤسسات النقد الدولية، حيث يتحكّم مضاربون كبار في اقتصاديات الدول وسياساتها، من وراء وميضِ شاشاتِ الكمبيوتر فيتفاقم عجزها”..
فعلاً، وعلى رأي هذين الباحثين”: كلُّ شيءٍ قد خُطّط له بدقّة”.
لكن، يا تُرى كيف سيكون عليه حال الفائضين عن الحاجة، أي الواقعين في “فخ العولمة” ممن استلبتهم ودمّرتهم وسلّعتهم؟!..
نسألُ بشكلٍ أوضح: كيف سيكون حال الشعوب المغلوبة على أمرها، في ظلّ توحّش ورفاهية الرأسمالية، مثلما تفاقم الحروب والأوبئة، وعملية التخدير التي تمارسها القوى المهيمنة على شعوب العالم، من خلالِ خلقِ عدوّ وهمي، يقود العالم إلى الهاوية.
بكلّ الأحوال، وعلى الرغم من تعدد الرؤى والنظريات حول العولمة، يبقى لـ المفكر الفرنسي “جان بوديار” رأي، يشير إلى أن العولمة دمّرت القيم الكونية بنظامها العالمي الافتراضي، ذلك أنها استبدلت الأفكار بالشاشات، بالأرقام، بالشبكات، وفتحت الباب أمام عنفٍ جديد بعيد عن العنف الثوري، وهو ما أسماه “عنف العولمة”.. العنف الذي رآه سيرتد على الحضارة الغربية، وسيؤدي ذلك برأيه: “الغرب سيموت لأنه فقد تمايزه و دمّر كلّ قيمه”.
بعد كلّ ما أوردناه، وغيره الكثير مما لم نتناوله، لا يسعنا إلا القول: هاهي العولمة تطحن الناس طحناً، وتدمّر علاقاتهم وتماسكهم، وتزيد من عمق التفاوت الطبقي والمادي بينهم.. هاهي تقودهم إلى فردانيّتهم وآنيّتهم وعزلتهم، بعيداً عن معناهم ومعانيهم الإنسانية، وقريباً جداً، بل وفي قلب النزعة الاستهلاكية..