يزدادُ القانون بهاءً كلما كان مُلبياً لمصالح الناس، ويقتربُ من دائرة البهاء تلك كلما شعر الناس أنهم باللجوء إليه يجدون ضالّتهم، وينالون بموجبه حقهم.
ورغم أن الكثير من القوانين نجدها في دائرة البهاء فعلياً وتمتلك القوة القادرة على انتزاع حقوق اللاجئين إليها، إلا أن هناك بعضها يُعالجُ جانباً حياتياً معيناً، ولكن يمكن أن يصدمنا بين وقتٍ وآخر بفراغات وثغرات لبعض التفاصيل الغائبة عنه والتي تكشفها التجربة والممارسة.
منذ أيام كنا بانتظار حافلة صغيرة ( سرفيس ) لنقلنا من دمشق إلى إحدى البلدات في ريف دمشق .. طال الانتظار ولم تظهر أي حافلة على ذلك الخط، وكلما مرّت فترة إضافية يزداد عدد الركاب ونزداد احتقاناً باليأس والملل، ساعة .. ساعتين ولم نستفد شيئاً، فقال بعضُنا لبعضِنا الآخر : تعالوا نتفق مع أحد ( السرافيس ) من خط آخر، لعله يقبل بنقلنا.
بعد قليل عثرنا على سرفيس من خط آخر وافق سائقه على إيصالنا، فصعدنا .. وبالكاد استوعَبَنا، ولكن رغم معاناة الانتظار وازدحام المقاعد بأكثر من سعتها كنّا مبتهجين جداً لهذه النعمة .. أغلقنا الباب وشدّ بنا الرّحال.
بعد مترين ثلاثة أخذ السائق أقصى اليمين وتوقف، استغربنا ما الحكاية ..؟! وإذ بشرطي مرور ينتصب أمام نافذة السائق ويطلب منه أوراقه، حاول السائق إفهامه أنه عطف علينا وأراد إنقاذنا ولكن دون فائدة .. وكلما تحدث السائق بعبارة يرد عليه الشرطي بكلمتين اثنتين فقط ( هات أوراقك ) وطبعاً هاتان الكلمتان تعنيان شهادة السواقة والميكانيك وبطاقة التأمين الإلزامي، وهذا يعني أيضاً – كما هو معروف – مخالفة طويلة عريضة يتبعها إرباك وتعطيل في فرع المرور لدفع غرامة لقاء تغيير الخط..!
استمرّ الجدل البيزنطي بين السائق والشرطي نحو عشر دقائق كانت كفيلة بتعكير مزاجنا أكثر من السائق، وبإفراغ قلوبنا من تلك البهجة، وصرنا نُتمتم بمخاوف إفشال الرحلة ونحن مكبوسون كقطرميز مكدوسٍ في بهو الحافلة.
المهم استسلم السائق للشرطي وأعطاه الأوراق وسار بنا إلى البلدة.
كانت دقائق عصيبة سبقتها ساعات انتظار مليئة باليأس والبؤس والملل، غير أن هذا لم يكن ليُشكّل أي اهتمام عند شرطي المرور، وهو المعني بتنظيم السير، ولكن كان من المفروض أن يكون معنياً أيضاً بتأمين خدمة النقل للمواطنين، أفليس شعارهم ( الشرطة في خدمة الشعب ) ..؟
ولكن في الحقيقة لا نستطيع أن نلوم الشرطي، لأن ما فعله تطبيق لقانون السير وما تبعه من تعليمات، فقانون السير لم يلحظ مثل هذه الحالة أبداً لا سلباً ولا إيجاباً، بينما صدرت تعليمات عن جهات مختصة تمنع أي سرفيس من تغيير خطه، واعتبرت الإقدام على ذلك مخالفة، وتلك التعليمات لم تتضمن النظر إلى إلزام شرطة المرور بإنقاذ من تقطّعت بهم السبل، فالويل لمن يُنقذ أمثالنا إن تعدّى حدوده وكان من خط آخر .. !
ستكون حالة حضارية بكل معنى الكلمة إن التفتت الجهات المختصة إلى هذه الناحية، والأمر لا يحتاج سوى إلى تعديل بسيط لقانون السير، أو صدور تعليمات جديدة تُغطي هذا الجانب وتسمح بتبديل الخطوط في الحالات الحرجة، ولتكن بإشراف شرطة المرور أو أحد المفوضين في مراكز الانطلاق وما حولها، فمن غير المعقول أن نكون ملزمين بالنوم في العراء حتى يستفيق سائق من الخط، وشرطة المرور التي ترفع شعار خدمتنا.. معنية بمخالفة وتجريم من يُنقذنا لا بإنقاذنا .. !