الملحق الثقافي- سامر خالد منصور:
إن الضغوطات الاجتماعية التي سببها الفقر عبر عصور الاستعمار، حيث كانت تُرحَّل ثروات بلاد الشام إلى الأستانة وإلى مستودعات إمداد، السفربرلك وما عقب ذلك أيام الاحتلال الفرنسي من ارتكاب جرائم بحق نخبة من الطليعة السورية التي كانت تنشد التحديث والتطوير.. هذا الاحتلال الطويل ومارافقه من ممارسات و سياسات أجهضت كثيراً من المناحي الحضارية للمجتمع السوري جاعلةً إياه يبقى مُجتمعاً زراعياً وما تبقى مُجرَّد هوامش عريضة باستثناء شريحة التجار التي كان لها حضورها في ظل هذا المجتمع الزراعي يتوارث الخوف من الفقر ويتجلى ذلك مثلاً في بعض الأمثال الشعبية التي نعرفها جميعاً.
استقبل مجتمعنا الزراعي ذاك العلوم والحداثة و هو يرى في التعليم وقاية من الفقر أكثر من أي شيء آخر، و مارس مجتمعنا الضغوطات على الأجيال الصاعدة الراغبة بالتعلّم كي تنجح وتُنجز في سبيل تحسين مستوى العائلة، حيث يتم تذكير الطالب من قبل والديه المزارعين بتضحياتهما في سبيل أن يُتم تعليمه الجامعي لأن الشهادة، درعه من الفقر، و ترفع رأس ذويه في القرية .. إلخ
إن هذه الضغوطات الناتجة عن الخوف من الفقر مضافاً إليها شغف من قبل السوريين غير المُتعلمين برؤية أولادهم يتعلمون، ربما سر هذا الشغف يكمن في الجينات التي انتقلت إلينا من أسلافنا الحضاريين العِظام، كل هذا جعل المجتمع السوري يمتلك نسبة جيدة من المُتعلمين والمؤسسات التعليميّة تحديداً في المراحل الأخيرة من زمن الاحتلال الفرنسي وبعد نيله لاستقلاله.
لكن من الجدير بنا الانتقال للحديث عن ذلك المُتعلم الذي تعرض لكل تلك الضغوط ومحاولة فهم كيف ينظر إلى ما تعلمه؟
هنا لا يحق لي إلا التعبير عن رأيي النابع عما شهدته أنا، لقد لاحظت شيئاً من التمترس في خندق العلم الذي يُحصله المُتعلم، و فخراً بالمعلومة و دفاعاً عنها، وإدانة شديدة للتقصير أو الاستسهال في الطرح العلمي من قِبل الآخرين المُستسهلين .. باختصار إن عِلم المُتعلم من أساتذتي في المدرسة أو الجامعة المربع الآمن بالبعد النفسي لهذه الكلمة، فرضا الوالدين و النجاة من ذُل الفقر والمَقدرة على دق باب بيت أهل الحبيبة، وطلب يدها بثقة، و تفادي تنمّر بقية الريفيين غير المؤمنين بالعِلم أو المدنيين سليلي العوائل التجارية غير المؤمنين باستهلاك سنوات طويلة من مرحلة الشباب في التعلّم، يضاف إلى ذلك رغبة المُتعلم عندما ينجح بنيل الشهادة برغم كل ظروفه الصعبة وبعد تحقيقه النجاح في حياته المهنية، رغبته بقلب الطاولة على من سخروا منه واستعلوا عليه، كل هذا، يجعله يصوغ من عِلمه برجاً عاجياً ويجعل لذخيرته العلمية بُعداً نفسياً يتعارض مع أهم مافي العِلم، ألا وهو التعاطي الموضوعي والمرونة.
لذا نجد كثيراً من الشكاوى من قبل الأجيال الصاعدة من طلبة العِلم خاصة في الجامعات، من الأساتذة تحت بنود اتهامات مثل دكاترة خشبيين، مُتكلسين، نرجسيين، مُستعلين، ونسمع على لسان عددٍ ليس بقليل من الطلبة عبارات مثل، دكاترة مُعقدين ويريدون تعقيدنا، يحسب الواحد منهم نفسه إلهاً و يحقد على من يُصوِّبُ له إن صادف ونسي.
وأنا عن نفسي شهدت أكثر من أستاذ يصرخ في وجهي و وجه زملائي وعروق عنقه تبرز كأنها الثعابين و عيناه تحمرُّ وتجحظ كأن رأسه سممه الغضب، وهو يقول : أنا كنت أدرس على ضوء الشموع، آكل وجبة واحدة في السكن الجامعي في اليوم، كنت أحياناً لا أمتلك ثمن شمعة فأذهب وأدرس تحت إنارة الرصيف، أنتم لديكم كل وسائل الراحة والرفاه و لستم تدرسون كفاية.. إلخ.
مايقوله هؤلاء المدرسون المتقدمون في السن، صحيح و من الجيد أن نسمع به، لكن الأسلوب الذي كان يُقال به كان ينمُّ عن حسد وغضب غير مُبرر، وكأنه مطلوب من كل من يريد نيل الشهادة أن يعاني و يذوق المُر على أصعدة مُختلفة وإلا لن يكون جديراً بها ! لست أدري ماضرهم إن كان الطالب يدرس وهو مُمددٌ على شاطئ من شواطئ جُزر هاواي وهو يشرب الكوكتيل أو داخل الجاكوزي و تطبيق الذكاء الاصطناعي يُراجع له دروسه بشكل مسموع، ثم يقدم امتحاناته عن بُعد عبر الانترنت بعد أن يُنهي جلسة مساج .
ماعلاقة العِلم بالمرمطة ؟!
ما علاقة العِلم بانعدام الخوف من الفقر؟!
هل عبارات عليك أن تتعلم عليك أن تنجح، يجب أن ترفع رأسنا..التي سمعها كثيرٌ من الأساتذة الجامعيين طوال حياتهم، من فُقراء لايُريدون لهم حياةً تشبه حياتهم الصعبة، جعلتهم يعتقدون أن الفقير هو من يجب أن يتعلم فقط ؟!
إن معظم المُنكبين على العلم في أهم جامعات العالم هارفرد، أكسفورد، بنسلفينيا، السوربون هم من العائلات الثرية وكثيرٌ منهم يصبح علماءً وكثيرٌ منهم ساهموا في وضع أشياء يُدرِّسها هؤلاء.
كل ما سبق يَمر وليس بالشيء الخطير، وقد يقول قائل إن جُلَّ المُبدعين الكبار على مرِّالعصور كانوا يعانون من تَمترس الأوساط الأكاديمية حول معارفها، ومثال ذلك ما حدث مع أينشتاين في بداية مسيرته الإبداعية الجَليلة، حتى فان غوخ لم تُعره الأوساط الأكاديمية اهتماماً أثناء حياته ثم صار إبداعه لاحِقاً، الشُغل الشاغل لعددٍ كبيرٍ منهم!.
الآداب فنونٌ أكثر تعقيداً من فن الرسم وهي فنونٌ عميقة لذا من الضروري تجاوز معوقات الاعتراف بما هو حداثوي و تلقيه واحتضانه بشكل جيد من قبل الأوساط الأكاديمية أو المعنيَّة عموماً، لدينا تأخر جَلي في احتضان و قبول الاندماج بما هو حداثوي وسط عالم متغير بوتيرة متسارعة، تجعل هذه الفجوة الزمنية الناتجة عن تَمترس المتعلمين خلف معلوماتهم، تجعلها تلغي مسألة مواكبة الحداثة، لأنه ريثما نقوم باستيعاب مُنتجنا الحداثي أو الوارد الحداثي بشكلٍ بانورامي، وامتصاص وإعادة توليد لـ الوارد الحداثي بما يخدمنا على النحو الأمثل، يكون قد فقد صفته الحداثية وأضحى شيئاً قد تجاوزه العالم المُتحضر، ويكون قد اعتراه كثيرٌ من اللغط بسبب تَمترس أهل العِلم والمعرفة وعدم انفتاحهم عليه.
مثلاً أنا شهدت في المشهد الثقافي الدمشقي صراعات وسجالات مُطوَّلة و قاسية تجاه مايسمى بـ شعر التفعيلة في كبرى المؤسسات والمحافل، برغم أنني شاب، بينما قد حُسم الأمر منذ زمن بعيد تجاه ما هو أحدث ك قصيدة النثر، في معظم أنحاء العالم ولم تعد تُحارب.
كما أن الحرب على سورية وحصارها الاقتصادي أنتجا جيلاً جُلُّه مُستسهل مُتنطِّع كسول، لكونه مُكتئباً مُعتاداً على إضاعة وقته في التسالي ليروِّحَ عن نفسه، بعض هذا الجيل يُكابد ليؤدي المفروض عليه من دراسة المعارف والعلوم ليصبح أكاديمياً، و لكون الأصل في عددٍ ليس بقليل منهم هو السطحيَّة والتَنطّع و كرههم لما تعلموا بسبب الهوَّة بين الأجيال، أخالنا سنبقى في دوامة اللاحداثة أو الحداثة الشوهاء التي نراها تَروج على مواقع التواصل الاجتماعي في الآداب والفن التشكيلي والغناء .. إلى آخره .
والحل باعتقادي هو واحات ثقافية فنيّة تجمع المُبدعين الذي يتمثلون روح العصر ممن أثبتوا أنفسهم بجهودهم الفردية، لابد أن يوحد هؤلاء جهودهم و يحتضنهم القطاع الخاص و العام بهامش كبير، كي لا نغرق بالكامل في وحل التخلّف والرجعيّة.
قد وجدت الحداثة طريقها أكثر في الدراما والأغاني وفنونٍ أخرى كثيرة ذلك أنها لا تخضع لتقييم و مُمانعة أوساطٍ أكاديمية كما هو حال الآداب، أما رواد الحداثة مثل نزار قباني ومحمد الماغوط و سواهم الكثير، فرضوا أنفسهم على الواقع الأدبي، فإذا رجعنا إلى ما كتبته الأوساط الأكاديميّة ضد مؤلفات نزار قباني قبل بلوغه ذروة نجوميَّته، لوجدنا كميةً كبيرة من الكُتب التي تقول بجعله في الدرك الأسفل بين الشعراء، ومن جهةٍ أخرى كانت الحاضنة المُثلى لرواد الحداثة والمُحدثين، هي شريحة المُحدِّثين أنفسهم، فما أجلُّ ما قاله محمود درويش عن شِعر محمد الماغوط وما أجمل العلاقة بين يوسف الخال وبدر شاكر السياب وأُنسي الحاج .. إلى آخره.
لابدَّ من التنويه ختاماً.. إلى أن الحداثة في الذهنيَّة وليست في البناء الفني للنص فقط، أي إن كان المَبنى، حداثيَّاً و المضمون ماضوياً رجعيَّاً فأنا لا أستطيع وصف النص إلا بكونه قديماً وغير حداثي حتى لو كان من المذهب الرمزي مثلاً.
العدد 1179 – 27 -2 -2024