بعد تحلل وتفكك الاتحاد السوفييتي السابق أراد الغرب أن يحول روسيا إلى دولة كغيرها من الدول التي لا تؤثر في المشهد الدولي ولا تأثير لها خارج حدودها الجغرافية، دولة لا تقيم للروح الامبراطورية والذاكرة الوطنية الجماعية والوعي المجتمعي أي اعتبار وتسير وفق معايير العالم الغربي أو لنقل الأميركي وهذا هو ما كان مطلوباً من بوريس يلتسن والذي سار وفقه، وكان هدف الغرب إهانة روسيا وليس إضعافها فقط من خلال حرمانها من فضائها الجيو سياسي أيضاً وهكذا بدأ الغرب بتوسيع حلف الناتو على الرغم من الوعد الغربي لروسيا بعدم حصول ذلك وكل ذلك كان يشكل إهانة لروسيا وتاريخها المشرف، فجاء الرئيس فلاديمير بوتين رداً على كل ذلك مقتنعاً أن شرعيته لا تكمن في انتخابه رئيساً وإنما في إعادة اعتباره لمكانة روسيا فعمل على الحوار مع الغرب منذ مطلع القرن الواحد والعشرين ولكنه حوار دون فائدة فكان التحرك في جورجيا ومن ثم في جزيرة القرم سنة 2014 وصولاً لما جرى سنة 2022 والعملية العسكرية في دونباس بعد الحديث عن انضمام أوكرانيا لحلف الاطلسي ما يشكل فتح ثغرة في الحديقة الخلفية لروسيا وتحد استراتيجي لأمنها القومي.
وعند القيام بتلك العملية تحدث الكثيرون على أن الرئيس بوتين (قد وقع في الفخ )في قراءات سطحية بل ورغبوية ناتجة من كراهية روسيا واستلاب للغرب، ولكن من قرأ قراءة استراتيجية فيها رؤية لموازين القوى الدولية ولتاريخ روسيا التي حطمت النازية وهزمتها ودفعت ثمن ذلك أكثر من 22 مليون قتيل من أبنائها ناهيك عن الدمار الذي لحق بها وحين كانت القوات الألمانية تسيطر على ثلاثة أرباع أوروبا حيث وصل جنود هتلر إلى حدود موسكو ومع ذلك دخل الجنود الروس بعد ذلك بثلاث سنوات وفرضوا شروط الاستسلام على ألمانيا الهتلرية في انتصار تاريخي غير مسبوق أنقذ العالم من النازية وشرورها .
إن نتائج الحروب لا تحسب ربحاً أو خسارة برقم الخسائر البشرية وإنما بتحقيق النتائج الاستراتيجية والربح الوطني والسياسي فالذاكرة الجماعية للشعب الروسي لا تنتهي لذلك نلاحظ أن كل الرموز التاريخية كانت حاضرة في كلمات وخطب الرئيس بوتين فيرجع إلى كاترين وستالين وغيرهم، بوصفهم رموزاً تاريخية لأنهم صنعوا امبراطوريات وقاتلوا أمماً وانتصروا فأصبحوا جزءاً من ذاكرة أمة حية لأن للأمم ذاكرة تنعشها الانتصارات، لذلك نرى اليوم روسيا ورئيسها مصرين على الانتصار في أوكرانيا على الرغم من حجم التضحيات والاصطفاف الغربي غير المسبوق خلف أوكرانيا وحجم الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي لها بهدف إلحاق هزيمة بالجيش الروسي وإذلال روسيا في حين أن ما حصل هو المزيد من النجاحات العسكرية لروسيا وهزائم مستمرة للقوات الأوكرانية خاصة في الفترة الأخيرة مع بداية تململ في الطرف الأوربي يتمثل بوقف عمليات التمويل للأسلحة العسكرية الأوكرانية، وحديث الرئيس الأوكراني عن الحاجة لخفض سن الالتحاق في الخدمة العسكرية للشباب الأوكراني لسد النقص في عدد الجنود حيث يتم الحديث عن أكثر من 79 ألف قتيل في الحرب عدا الجرحى والمصابين مع عدم وضوح رؤية قريبة لنهايتها بسبب سياسة التوريط التي وقعت بها القيادة الأوكرانية ممثلة برئيسها زيلينسكي وأركان حكومته علماً أن موازين القوى بين طرفي الصراع تشير إلى 2-إلى 1- لصالح الجيش الروسي المقاتل بينما عدد العتاد الذي يستعمل في الحرب هو واحد إلى سبعة في صالح القوات الروسية وأصبح عدد المسيرات الروسية التي تسقطها أوكرانيا حالياً أقل بكثير مما كانت تسقطه بداية العملية العسكرية مع تحسن التقانة العسكرية وفعالية للسلاح الروسي حيث طورت مصانعها واكتفت ذاتيًا من الذخيرة اللازمة وترافق ذلك كله مع تقدم على الأرض لتحقيق كامل أهداف العملية العسكرية مع ملاحظة أن الغرب بضفتيه بدا عاجزاً عن تقديم أي شيء يغير في موازين القوى الذي بدأ يتجه بسرعة لمصلحة روسيا في كل المعايير، علماً أن أحد أهداف الحرب كان استنزاف روسيا عسكرياً واقتصادياً وعالمياً ولكنها اليوم تبدو أكثر قوة في كل المجالات وزاد حجم التأييد الدولي لها بعد محاولات عزلها دولياً في بداية العملية العسكرية.