لوركا الشاعر الفنان

الملحق الثقافي- د. ثائر زين الدين:
من يقرأ أعمال لوركا الشعريّة يراهُ مفتوناً بالألوان إلى درجة غريبة لكأنّه ينتظرُ من كل موضوع يقتحمُهُ ويروقُ له، أن يقدّمَ له الحجّة كي يستخدم الألوان التي تظّلُ ترتعشُ في أعماقنا طويلاً؛ لنقرأ من حكاية القمر:
«جاء القمرُ إلى دكان الحدّاد
بسرجِهِ العنبري
وأخذ الطفلُ يحدّق إليه
.. يّحركُ القمرُ ذراعيه
ويكشفُ بعهرٍ وبطهرٍ صدرَهُ القصديري الصلد
أهرب يا قمر،يا قمر، يا قمر، يا قمر
إن جاءَ الغجَرُ
صنعوا من قلبكَ
عقوداً وخواتم بيضاء.
أيها الطفل دعني أرقص….
ومن غابة الزيتون
طلع الغجَرُ
بألوان البرونز والأحلام….»
وفي قصيدة «الغاليّة والريح»، تخاطب الريحُ الغاليّةَ:
«أيتها الصبيّة
ارفعي ثوبك لأراكِ
وافتحي لأصابعي العريقة
الوردة اللازوردية فوق جوفك…»
ولشدة عنف الريح يرسمها لوركا عجوزاً زمرديّة اللون تطارد الفتاة عبر طرق برمائية تختلط فيها البلوريات بأشجار الغار، بينما يرقد الحرس وهم يراقبون الثيران البيضاء، وغجر الماء يتلهّون برفع عناقيد القواقع وغصون الصنوبر الخضراء.
ونقرأ في قصيدة «القبض على أنطونيو آل كامبوريوس» وصفاً بألوان تعبيرية باهرة:
«.. أسمر بلون القمر الأخضر
يمشي برشاقة..
وجدائل شعره الفاحم تتألق بين عينيه
وفي منتصف الطريق قطف ليمونات كرويّة
وألقاها في الماء….كانت أشجار الزيتون تنتظر ليلة برج الثور
والنسيم يمتطي
ظهور الجبال الرصاصية…»
وقد تتساءل ما الذي أراده من جعل أنطونيو يقطع ليمونات ٍ كروية ويلقيها في الماء ؟
والجواب إن الشاعر حقق من خلال ذلك غايتين الأولى معنوية فالبطل لاهٍ، غير مكترث بشيء، سعيد، يسير في دربه عابثاً ولا يخشى شيئاً… والغاية الثانية جمالية…إننا أمام لوحة زيتية طبيعية صامتة….تخيلوا ليمونات صفراء اللون تسبح فوق صفحة الماء الزرقاء لكأنك أمام عمل ٍ للفنان الهولندي الذي أحبه لوركا كثيراً: فان كوخ.. وسيلعب هذه اللعبة كثيراً…لعبة تغني النص بصرياً.
في قصيدة الراهبة الغجرية نقرأ:
«.. فوق نسيج تبني
تطرّز الراهبة
وفي الجو العنكبوتي الرمادي
تحلّق طيور الموشور السبعة..
ما أحسن تطريزها
وبأي لطف ٍ كانت تطرّز
فوق النسيج التبني
..زهوراً من نسج خيالها
أي عباد الشمس، أي مانوليا
من الخَرَز والأشرطة.. وأي زعفران وأقمار.
على كساء المذبح خمس ليمونات.. وفي عيني الراهبة يعدو فارسان…».
انظروا إلى حضور اللون الأصفر الفاتح…لون الليمون..لون عباد الشمس… الذي يطغى على لوحة الراهبة التي تنهك نفسها بالتطريز… وحين تلتفت إلى جسدها وتنزع قميصها وقد عبرَ في مقلتيها ظل فارس، لا تبصرُ إلا « غيوماً وجبالاً / في الأقاصي المهجورة «فيتمَزّقُ قلبها» قلب من سكر وعشب غض «.. لكأن اللون الأصفر بالمفردات التي شغلها لم يعبر إلا عن الموت القادم إلى جسد هذه الراهبة؛ هذا الجسد الذي لا يجدُ إلا العطش والجوع، فتعود صاحبتهُ من أمام المرآة إلى نسيجها ذي اللون التبني لترسم عليه من جديد…
وكي لا نبتعدَ كثيراً عن تقنيّة رسم لوحةِ القصيدة بلونين فحسب (كما كان الأمر عند أمل دنقل، وفي كثير من قصائد الهايكو) يمكن أن نقرأ قصيدة «خارج السرب» للشاعر السوري صقر عليشي. القصيدةُ مكوّنةٌ من أربعةِ مقاطع تبدأُ كما يأتي:
«صوتُ الحليبِ أبيض
أسمَعُهُ
يفيضُ من جوانبِ الإناءْ
تحليقةُ النورسِ بيضاءُ…
تَحطُّ في مكانِها المتعَة
بينَ الأرضِ والسماءْ»
وستتَملَّكُنا الدهشةُ بدايةً كيف نصفُ الصوتَ (وهو ما نلتقطُهُ بحاسةِ السمع) بلونٍ ما نلتقطه ونراه بحاسةِ البصر؛ كيفَ يكونُ الصوتُ أبيضَ، حتى ولو ساعدتنا مفردةُ «الحليب» البيضاء في أذهاننا منذُ كُنّا رُضَّعاً على فهم الوصف. لكن الشاعر أرادَ ذلكَ تماماً، لقد أرادَ أن يقدِّمَ لنا صورةً جديدةً على ما عهدناهُ من قبل، ومع ذلك سنتقبَّلها ونفرح بها، وسنغمض أجفاننا ونرى ونَسْمَع كيفَ تَصبُّ الحَلّابَةُ، أو بائِعةُ الحليب لأُمِّنا الحليبَ في الإناء حتى يمتلئ، وربّما يطوفُ عن جوانبِ الإناء..
إذاً أشركَ الشاعِرُ في بناءِ صورتِهِ / اللوحة حاستي السمع (صوت) والبصر(أبيض) معاً، وعلينا أن نتلقاها، ونتذوّقها بالحاستين معاً، وقد فعلنا.
وفي المقطع نفسه يتابِعُ فيصنفُ تحليقةَ النورسِ (وهي حركة محض) باللونِ الأبيض، وعلينا من جديد أن نربطَ بين طرفي الصورة (التحليقة) و(البيضاء) وهنا أيضاً ستساعدنا مفردة ثالثة هي (النورس) وهو أبيض اللون وتجعلنا نتذوّق الصورة حتى ولو كانت عصيّة على الفهم.
ثُمّ يأتي المقطعُ الثاني:
«للياسمينِ عبقٌ أبيضُ
في صباح الشّامِ
لوّنتْ سيرَتُهُ الأيامَ
والرصيفَ
والعُشّاق»
وللمّرة الثالثة نحنُ أمامَ صورةٍ يرسُمُها الشاعِرُ ويطلُبُ منا أن نستخدم حواسنا المختلفة في فهمِها، في تذوّقها، ونحن هنا أمام (عبقٍ) تلزمُنا حَاسَةُ الشمّ كي نُحِسَّهُ ونفهَمَهُ ونُميّزه، و(أبيض) وهو لونٌ لابُدّ لنا من حاسة البصر لنلتقطه، وسيمنحنا من جديد مفردة مُساعدة تُسِّهلُ علينا الربط بين مفردتين تحتاجان لحاستين مختلفتين.. إنها مفردة (الياسمين)؛ وما يساعدُنا فعلاً أن الياسمين الشامي بطبيعتِهِ أبيض..
ثُمّ نكتشف أن لهذا الياسمين في صباحِ الشام سيرة خاصة؛ لوّنت الأيامَ والأرصفة التي علينا أن نتخيّل منظرها وقد اكتست بأقمار الياسمين البيضاء، التي تفوح بعطرٍ خاص لا يُعطي متعته لأي زهرٍ آخر.. وعلينا أن نتخيّل العشّاقَ منذ ولادة الشام وهم يتهادَونَ هذا الياسمين، وأحدُهم يَشْكِلُ منهُ خُصلةً في شعر الآخر وما إلى ذلك من ظلالِ هذهِ الصورة الواسعة!
في المقطع الثالث نحن أمام لوحتين أكثر صعوبة مما سبق:
«أبيضُ الضبابِ مُغْلَقٌ
وأبيضُ الثلج مُشَرَّعٌ
على الفضاءْ»
فإذا كانت حاسةِ البصر هي الأساس، وإذا كنّا سنستخدم حاسة اللمس أيضاً فنحسُ على جِلدنا لَسْعَ بردِ نُدفِ الثلج، ورطوبةَ وكثافةَ بخارِ الضبابِ، فإن سعةَ مخيلتنا هي وحدها القادرة على المقارنة بين المفهومين اللذين تطرحهما اللوحة: الضيقُ والانغلاقُ في أبيض الضبابِ من جهة، والسعةُ والانفتاحُ في أبيض الثلج!!
وإذا كان اللونُ الأبيضُ قد ظَلَّ مسيطراً ويرسُمُ اللوحاتِ وحدَهُ في المقاطِعِ الثلاثة السابقة، فإن لوناً آخَرَ دافئاً هذهِ المرّة هو الذي يُقِّررُ أن يُنهي اللوحة بضربةِ فُرشاةٍ واحدة:
«لِكَّن نظرةَ التفّاحِ
وحدها
حَمْراءْ «
لماذا التفّاحُ الآن؟ وما الذي يقدِّمُهُ هذا المقطع على صعيد المعنى؟
من الصعوبةِ بمكان أن نقدّم إجابةً شافيّة، لكن الواضِحَ في الأمر أننا أمام فَنّان يرسم؛ فنان يُريد أن ينهي لوحَتَهُ، وها هو ذا يحسُّ أن الأبيضَ البارِدَ المحايد لا يمكنه وحده أن ينجزَ لوحةً تشكيليّة، فلا بُدّ إذاً من لون آخر يَخْلِقُ التوازنَ في فضاء العمل، ولا شكَ أن لوناً دافئاً كالأحمِرِ هو المطلوب؛ إذاً نحن بالدرجةِ الأولى أمام إحساس فنانٍ تشكيليٍ يرسم. ولعلّ العنوانَ يشي بذلك منذ البداية «خارج السرب» فالشاعر يعتقدُ أنّه يقدّمُ نَصّاً مختلفاً عَمّا حوله؛ والاختلاف يتجلّى في أنّه يرسُمُ لوحةً بالكلماتِ ويقدّم نصاً تشكيليّاً إلى حدٍ بعيد.
ونقرأ لصقر عليشي أيضاً قصيدة «الأزرق»، التي تقدِّمُ للمتلقّي إحساسَ هذا الشاعر باللون الأزرق، وسيطرةَ هذا اللون على عالمه، بما يمثله من شفافيّةٍ وسموٍ وحُلمٍ وحياةٍ وعطاءٍ وسحرٍ وغموض وهذا طبعاً ما تقولهُ أسطر القصيدة:
« منذ زمانٍ
يسحرني هذا اللون الشفافُ
لو كنتُ كتاباً
لم أخترْ – بالتأكيدِ – سواهُ غلافْ
لو أني نافذةٌ
لبقيتُ عليه مفتّحة
ورميتُ على الطرقاتِ الأبوابْ
لو أني قلبٌ
كان الأزرقُ لونَ دمائي
المنسابْ
لو أني مطرٌ
ما كان يسيلُ بغير ترقرقهِ
الميزابْ
* *
هو في الأصل سماويٌّ
وهو لدى أمواج البحر
مضافْ
فصلتُ ستائرَ
أحلامي منهُ
وأطلتُ….
ولم أتحاشَ الإسرافْ».
والحقيقة أن هذا اللون سيطرَ ويسيطرُ على عوالمِ كثيرٍ من الفنانين والشعراء، فمن لا يذكر المرحلة الزرقاء في إبداع بيكاسو، ومن لا يلفتهُ الحضور والتردُّدِ الكثيف لهذا اللون في قصائدِ الشاعرة آنّا أخماتوفا(1889-1966)، بصفته الطبيعيّة أو بمرموزيَّته، كما في الأمثلة التالية المأخوذة من قصائد مختلفة:
«كل شيءٍ لك : صلاتي اليوميّة
غيبوبة الحُمّى وسهادها
أشعاري (( السرب الأبيض ))
والحريق الأزرق في عينيَّ»
أو كقولها:
«وأظلمَ في السماء الطلاء الأزرق
وتعالت أغنية ُ الناي»
وقولها:
«إلى هنا.. اجلس قريباً منّي،
وانظر بعينين فرحتين:
ها هو ذا دفترٌ أزرق
يضمُّ أشعاريَ الطفوليّة «
وقولها:
«الشمسُ العُنّابيّة
ترتفعُ فوق دخانٍ أزرق أشعث.
أما مضيفي فصامت
ينظرُ إليَّ بصفاء»
أو كقولها:
«لكنّ طيرَ الحمام الأزرقَ عاد،
وراحَ يضربُ بجناحيهِ زجاجَ نافذتي،
فامتلأت الغرفةُ المتواضعة بضياءٍ
كأنّهُ يصدرُ عن مُسوح قدّاسٍ بديع».
ولقد عَرَفَ الشعِرُ قبل الزمن الذي نتحّدث فيه بكثير، وبالتحديد عام 1872 تجربةً شعريّةً على درجة كبيرة من الجسارة في هذا السياق، لقد حاولَ صاحبها – على ما يبدو – أن يحوِّلَ الحروفَ إلى ألوان، في محاولة للبحث عن اللغة الشعرية القادرة على التعبير عن الحواس كلها في وحدةٍ كامنة. إنه آرثر رامبو ( 1854- 1891) والقصيدة التي أعنيها هي «حروف اللين».
                            

العدد 1184 –2-4-2024         

آخر الأخبار
المركزي يصدر دليل القوانين والأنظمة النافذة للربع الثالث 2024 تحديد مواعيد تسجيل المستجدين في التعليم المفتوح على طاولة مجلس "ريف دمشق".. إعفاء أصحاب المهن الفكرية من الرسوم والضرائب "التسليف الشعبي" لمتعامليه: فعّلنا خدمة تسديد الفواتير والرسوم قواتنا المسلحة تواصل تصديها لهجوم إرهابي في ريفي حلب وإدلب وتكبد الإرهابيين خسائر فادحة بالعتاد والأ... تأهيل خمسة آبار في درعا بمشروع الحزام الأخضر "المركزي": تكاليف الاستيراد أبرز مسببات ارتفاع التضخم "أكساد" تناقش سبل التعاون مع تونس 10 مليارات ليرة مبيعات منشأة دواجن القنيطرة خلال 9 أشهر دورة لكوادر المجالس المحلية بطرطوس للارتقاء بعملها تركيب عبارات على الطرق المتقاطعة مع مصارف الري بطرطوس "ميدل ايست منتيور": سياسات واشنطن المتهورة نشرت الدمار في العالم انهيار الخلايا الكهربائية المغذية لبلدات أم المياذن ونصيب والنعيمة بدرعا الوزير قطان: تعاون وتبادل الخبرات مع وزراء المياه إشكاليات وعقد القانون تعيق عمل الشركات.. في حوار التجارة الداخلية بدمشق بمشاركة سورية.. انطلاق فعاليات المؤتمر الوزاري الرابع حول المرأة والأمن والسلم في جامعة الدول العربي... موضوع “تدقيق العقود والتصديق عليها” بين أخذ ورد في مجلس الوزراء.. الدكتور الجلالي: معالجة جذر إشكالي... بري: أحبطنا مفاعيل العدوان الإسرائيلي ونطوي لحظة تاريخية هي الأخطر على لبنان عناوين الصحف العالمية 27/11/2024 قانون يُجيز تعيين الخريجين الجامعيين الأوائل في وزارة التربية (مدرسين أو معلمي صف) دون مسابقة