الغرب و”ديمقراطية صناديق الاقتراع”!

د. مانيا إبراهيم بيطاري: 
تميَّز قادة المقاومة بأنَّهم يمتلكون رؤية فكرية استراتيجية وقدرة على تأسيس نظرية المقاومة وتطويرها على نحو لايقلُّ عن مُنظِّري الاستعمار الغربي أنفسهم؛ بل أخذوا على عاتقهم تأسيس نظرية المقاومة بحكم معيارين: نقد أيديولوجيا الآخر الغربي المستعمِر وفضحها أمام الشعوب في العالم كلِّه، واعتماد المنطق والحجج والبراهين للإقناع.
تكوَّنت في سرديات الذات المقاومة صورة الغرب؛ تحكمها موضوعة “النقد الإيجابي”. وتتمثَّل منطقيَّة الصورة في كونها وليدة التجربة الواقعية، والشفافية في السرد المحايد، والمغايرة للصور النمطيَّة المُسبقة، كما هي صورة الغرب لدى السيد الرئيس بشار الأسد الذي لم يُقدِّم الغرب في كلٍّ سلبي أو في صورة مختزلة، بل ميّز بين حضارة الغرب وسياساته؛ فأبدى إعجابه بالحضارة الغربية، وانتقد سياسات الغرب الاستعمارية، وسابقاً كان الاقتران بين حضارة الغرب والسمة السلبية “متوحِّشاً بلا أخلاق” قائماً من دون تمييز.
قال الرئيس الأسد في مقابلة مع وزير الخارجية الأبخازي إينال أردزينبا (21/4/2024): “إنَّ السياسة فنّ الممكن فلابدَّ من المحاولة في الحوار مع الغرب على أسس المساواة. أنا عشت مدة طويلة في الغرب، وأنا أحترم إنجازاتهم العلمية والثقافية، وبفضل هذه الإنجازات أصبحوا أقوياء، ولكنهم منحلُّون سياسياً، يعملون لحسابهم الشخصي وليس للشعوب”.
وفي مقابلة أخرى مع الإعلامي الروسي فلاديمير سولوفيوف أكَّد الرئيس الأسد على عدم استقلال معظم القرارات العربية منذ أربعين سنة عن الدور الغربي، وميَّز بجرأة من خلال المقارنة أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي التي لم تكن أبداً في النظام الشيوعية، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين ميَّز وجهي استخدام الرأسمالية: “قدَّمت الصين نموذجاً هو مزيج بين المبادئ الشيوعية والاقتصاد الرأسمالي، ونتج عن هذا المزيج دولة مركزية اجتماعية لديها حرية اقتصادية للشركات، لهذا نهضت الصين منذ عام 2008 بثبات مقابل انحدار اقتصاد الغرب.
أثبتت الصين أنَّ المبادئ الرأسمالية مهمة للاقتصاد، لكن الرأسمالية كنموذج لإدارة الدولة محكوم بالإخفاق”
ورأى الرئيس الأسد في مقابلته مع وزير الخارجية الأبخازي أنَّ العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا “ستُصحِّح منحى التاريخ العالمي” انطلاقاً من وعيه تاريخ المنطقة والأيديولوجيا الاستعمارية التوسُّعية المُهدِّدة استقرار روسيا.
نعتقد أنَّ الشيء المميَّز في خطاب سيادته هو تضمُّنه انقلاب السحر على الساحر؛ فالأيديولوجيا الاستعمارية تتحقَّق وتتحرَّك من خلال إثارة النزاعات والحروب الحدودية، ولاسيَّما بعد الحرب العالمية الثانية كما ذهب إلى ذلك الصهيوني هنتغتون في كتابه “صدام الحضارات”: “حدوث صدام حضاري بسبب تصعيد حرب من حروب خطوط التقسيم بين جماعات من حضارات مختلفة” (صموئيل هنتغتون: صدام الحضارات، ص 505 )، لكن الرئيس الروسي بوتين فوَّت فرصة المبادرة؛ فكانت العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا هي حرب ضد الحرب وضد النازية الجديدة.
تشير العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا إلى حدوث منعطف تاريخي في سير القطبية العالمية؛ إذ تؤكِّد روسيا على استقلال رأيها من جهة وعلى قدرتها على المبادرة والمباغتة من جهة أخرى.
إنَّ الموضوعتين: استقلال الدولة والمبادرة في اتخاذ القرار وليس فقط في مجرَّد اتخاذ القرار، غالباً ما كانتا حكراً على الولايات المتحدة الأمريكية، أما الآن، فالعالم يتَّجه نحو تعدُّد القطبية والتوازن العالمي الذي يُؤكِّده نمو استقلال الدول والمبادرة في اتخاذ القرار.
إنَّ تأكيد الرئيس الأسد على كلمة “تصحّح” وليس “تغيّر” تعني كما قال: إنَّ التعدُّدية شيء طبيعي، أما الشيء الطارئ الشاذ، فهو الأُحاديَّة القطبيَّة البارزة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
وهنا لابدَّ أن نشير إلى أنَّ التعدُّدية هي الخطوة الأولى لعلاقات إيجابية بين أمريكا وآسيا لتحقيق التوازن العالمي مقابل علاقات أمريكا بالغرب.
ونشير إلى أنَّ تأكيد الرئيس الأسد على التعددية يأتي من كونها أساس تحقيق الاستقلال عن التبعية الغربية، ولا يعني الاستقلال القطيعة مع العالم،  بل أن تكون فاعلاً حقيقياً في الساحة الدولية لامجرد رقم؛ ولهذا دعا سيادته إلى نظريته “تشبيك البحار الخمسة” (البحر الأحمر، البحر الأبيض المتوسط، البحر الأسود، بحر قزوين، بحر العرب).
وقد قوبلت هذه النظرية بالحرب الكونية على سورية برغم أنها لا تنكر أصلاً مصالح الدول العظمى في المدى الإقليمي الذي تشكله البحار مثل الوصول إلى مصادر الطاقة ومحاربة الإرهاب.
إنَّ نظرية تشبيك البحار الخمسة توجُّه حقيقي لإنشاء اتحاد جغرافي جيوسياسي دعا إليه الرئيس الأسد لحلّ المشاكل العالقة في المنطقة بدل نظرية “الفوضى الخلاقة” التي دعت إليها وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايز.

لقد تضمَّنت كلمة الرئيس الأسد خلال الاجتماع الموسَّع للجنة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي انعقد السبت 4/5/2024 ، صورة حيَّة للتغيُّرات في العالم من منظور استمرار المقاومة ولاسيَّما في غزة.
وفي كلمته نبَّه إلى أيديولوجيا الغرب التي تفرز نظريات من قبيل (نظرية الفوضى الخلاقة) و( نظرية اليأس) والعولمة (تعميم النمط الغربي والاستتباع للغرب) وثقافة الاختراق، لتتحوَّل هذه الأيديولوجية إلى عقيدة تحلُّ محلَّ العقائد والمبادئ الوطنية، بمعنى آخر، نحن إزاء حربين؛ حرب صلبة وحرب أيديولوجية عالمية ناعمة تتجاوز الأطر الوطنية، وتتطلب هذه الحرب أولاً تسليح المواطن بالوعي أينما حلَّ شرقاً أو غرباً، أي تسييس الشعب وعدم الفصل بين المواطن والسياسة؛ لهذا وجَّه سيادته في لقائه السابق مع الصحفي الروسي سولوفيوف النقد لما يُسمَّى بالديمقراطية الغربية المقتصرة على صناديق الاقتراع في الانتخابات، وفي الوقت نفسه تصادر مطالب الشعوب الغربية في المظاهرات مثل إيقاف الحرب على غزة حالياً ومنع غزو العراق سابقاً. وتتطلب ثانياً: دعم المقاومة من دون تردُّد من جهة والثبات على هذا الموقف من جهة أخرى.
إنَّ استمرار المقاومة بأشكالها ولاسيَّما في غزة كشف الغطاء عن أعين الشعوب الغربية، وبدأت تبصر حقيقة النظام الرأسمالي وزيف الدعاية الإعلامية الغربية؛ فتدهورت صورة المنظومة الغربية.
نستطيع القول: إنَّ استمرار المقاومة حقّق ما حاولت أمريكا والغرب تطبيقه على الدول العربية فيما يُسمَّى “الربيع العربي”، وهو خلخلة استقرار العلاقة بين الشعب والنظام الحاكم، وفي الوقت نفسه حرَّر المواطن الغربي من قبضة التدجين والتسليع.
نقد الرئيس الأسد في أكثر من لقاء الليبرالية الحديثة الهادفة إلى تفكيك بنية المجتمع (العائلة)، وتفكيك الدولة، كما حدث للاتحاد السوفييتي، وفي المقابل أكَّد على الدرس السياسي الكبير في العلاقات الخارجية، وهو ضرورة التمسُّك بالمصالح الوطنية وإن كان ثمنها باهظاً؛ لئنَّ ثمنها هو ربح الوحدة الوطنية على المدى البعيد، فالموضوع الوطني يجمع الناس على اختلاف مشاربهم السياسية، والشعب يُقدِّر الموقف الوطني والتاريخ يُسجِّله.
إنَّ وعي التاريخ لدى الرئيس الأسد يمنحه رؤية استراتيجية سليمة؛ فالغرب يكذب ويكذب؛ وصاحب القرار في السياسات الغربية هو الشركات الكبرى القائمة على منظومة البيع والشراء (لهذا فُرِّغ الخطاب السياسي في الغرب من محتواه فأصبح دعائياً بلا قيمة) أي أنّها لا ترقى حتى إلى المصالح المشتركة؛ بل المصلحة الخاصة والدولة قائمة لخدمة الشركات في قلب العالم الرأسمالي الغربي المتوحش اللا أخلاقي لا لخدمة المواطن.
* كاتبة فلسطينية ورئيسة دائرة التنظيم في منظمة الصاعقة.

آخر الأخبار
إعادة فتح موانئ القطاع الجنوبي موقع "أنتي وور": الهروب إلى الأمام.. حالة "إسرائيل" اليوم السوداني يعلن النتائج الأولية للتعداد العام للسكان في العراق المتحدث باسم الجنائية الدولية: ضرورة تعاون الدول الأعضاء بشأن اعتقال نتنياهو وغالانت 16 قتيلاً جراء الفيضانات والانهيارات الأرضية في سومطرة الأندونيسية الدفاعات الجوية الروسية تسقط 23 مسيرة أوكرانية خسائر كبيرة لكييف في خاركوف الأرصاد الجوية الصينية تصدر إنذاراً لمواجهة العواصف الثلجية النيجر تطلب رسمياً من الاتحاد الأوروبي تغيير سفيره لديها جرائم الكيان الإسرائيلي والعدالة الدولية مصادرة ١٠٠٠ دراجة نارية.. والجمارك تنفي تسليم قطع ناقصة للمصالح عليها إعادة هيكلة وصيغ تمويلية جديدة.. لجنة لمتابعة الحلول لتمويل المشروعات متناهية الصِغَر والصغيرة العقاد لـ"الثورة": تحسن في عبور المنتجات السورية عبر معبر نصيب إلى دول الخليج وزير السياحة من اللاذقية: معالجة المشاريع المتعثرة والتوسع بالسياحة الشعبية وزارة الثقافة تطلق احتفالية " الثقافة رسالة حياة" "لأجل دمشق نتحاور".. المشاركون: الاستمرار بمصور "ايكو شار" يفقد دمشق حيويتها واستدامتها 10 أيام لتأهيل قوس باب شرقي في دمشق القديمة قبل الأعياد غياب البيانات يهدد مستقبل المشاريع الصغيرة في سورية للمرة الأولى.. الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد إعلام العدو: نتنياهو مسؤول عن إحباط اتفاقات تبادل الأسرى