د. مُحمّد الحوراني
قبلَ أسبوعٍ من استشهادِ الرئيس الإيرانيّ الدكتور إبراهيم رئيسي، معَ وزير خارجيّتِه ومجموعةٍ من المُرافقينَ في حادثِ الهبوطِ الاضطراريّ لمروحيّتِه في مُحافظة أذربيجان الشرقية، تشرّفتُ بلقاءِ فخامةِ الرئيسِ معَ مجموعةٍ من الأصدقاءِ العربِ والإيرانيّينَ الذينَ زاروا الجمهوريّةَ الإسلاميّةَ الإيرانيّة للمُشاركةِ في فعالياتِ معرضِ طهران الدوليّ الخامسِ والثلاثينَ للكتاب.
دَخلْنا المكانَ المُخَصَّصَ للقاء، فوجَدْنا الرئيسَ يُؤدّي صلاةَ الظُّهر بكُلِّ الخُشوعِ والإيمان، بحُضورِ ثُلّةٍ من المُصلّينَ والمُؤمنينَ والكُتّابِ والإعلاميّين. شارَكْناهُمُ الدُّعاءَ والصلاةَ، قبلَ أن يُنهيَ الرئيسُ صلاتَهُ، ويستديرَ للسلام علينا. كنتُ الأقربَ إلى فخامةِ الرئيس بينَ الحُضور، وأوّلَ المُسلّمينَ عليه.
عرّفْتُهُ بنفسي، وقدّمتُ إليه واجبَ العزاء والمُباركة بشُهداءِ الجمهورية الإسلامية الإيرانيةِ الذين ارتَقَوا إلى علياءِ الخُلود بفعلِ الاعتداءاتِ الصهيونيّة التي لم يكُنْ آخرَها العُدوانُ على مبنى القُنصليّةِ الإيرانية في العاصمةِ السوريةِ دمشق، كما شكرتُ الجمهوريةَ الإسلاميةَ الإيرانيةَ لقِيامها بعمليةِ الوعدِ الصادق التي من شأنها أن تضعَ حدّاً للغطرسةِ والعدوان الصهيونيّ هُنا وهُناك.
ابتسمَ فخامةُ الرئيس ابتسامةَ الواثقِ بالنصر، والمُؤمنِ بحتميّةِ القضاء على الاحتلالِ الصهيونيّ وتحرير الأراضي الفلسطينية منه، مُؤكّداً دورَ الكلمةِ في فضْحِ المُخطّطاتِ الصهيونيةِ والغربيّةِ الهادفةِ إلى إبادةِ الشعب الفلسطينيّ واقتلاعه من أرضه، ومُشدِّداً على ضرورةِ توثيقِ بطولات الشهداء والجرحى الذينَ قاوَمُوا المشروعَ الصهيونيَّ والإرهابيَّ التكفيريّ في سورية وفي غيرها من دُوَلِ المنطقة، فالمُثقّفُ والكاتبُ والأديبُ، وفقَ رؤيةِ الرئيسِ الشهيد، هو الأقدرُ على التأريخِ لهذه البُطولاتِ والتضحيات، وتقديمها بأسلوبٍ أدبيٍّ رشيقٍ ومقبولٍ وقريبٍ من قلوبِ الغالبيةِ من أبناء الأمة وعُقولِهم، ومن ثمّ فإنّ هذا العملَ هو من أشرفِ الأعمالِ التي ينهضُ بها الشاعرُ والروائيُّ والكاتبُ والأديبُ المقاوم، ولهذا استمعَ الرئيسُ المُثقّفُ والأديبُ بشغفٍ واهتمامٍ إلى قصيدةِ الشاعر اليمنيّ مُعاذ الجنيد، التي أرّخ فيها، وتحدّثَ عن بطولاتِ أبناءِ الشعب الفلسطينيّ والمقاومينَ من أبناء الأمّةِ للمشروع الصهيونيّ الغربيّ الهادفِ إلى إبادةِ الشعب الفلسطينيّ، تمهيداً لاقتلاعِه من أرضِه والقضاءِ عليه، لكنَّ تضحياتِ الشعبِ الفلسطينيّ وقُوى المقاومة أثبتتْ أنها الأقوى والأقدرُ على هزيمةِ المشروعِ الصهيونيّ والقضاء عليه.
كانَ اللقاءُ بفخامةِ الرئيس مُفعَماً بالأملِ واليقينِ باقترابِ النصر، كيفَ لا، وهو المُؤمنُ بوعدِ ربِّه، والمُوقنُ بمظلوميّةِ الشّعبِ الفلسطينيّ، والمُفاخرُ بدعمِ الجمهوريةِ الإسلاميةِ الإيرانيةِ إيّاهُ؟! ولهذا فقد أكّدَ، في نهاية، اللقاء دَعْمَهُ المُطلقَ لجائزةِ فلسطينَ العالميةِ للآداب، ولكُلِّ فعلٍ ثقافيّ من شأنِه فضحُ مُمارساتِ كيانِ الاحتلال وجرائمِه بحقِّ الشعبِ الفلسطينيّ وغيره من شعوب المنطقة.
لم يكُنِ اللقاءُ بالرئيس الإيرانيّ طويلاً، ومعَ هذا فقد تركَ أثراً عميقاً في قلبي وفي قلوب الزُّملاءِ الذينَ التَقَوا فخامتَهُ في يوم الأحد الذي سبقَ استشهادَهُ بأسبوع واحد، بل إنّ فخامةَ الرئيس أرادَ لهذا اللقاء أن يكونَ ثقافيّاً وأدبيّاً، وهو المعروفُ بثقافتِه وشَغَفِه بالمُطالعةِ والقراءةِ ورعايتِه للأدبِ والأدباء، ولهذا كانَ حريصاً على توجيهِ النصيحةِ إلى مَنِ التقاهُم من أعضاءِ الوفدِ الزائرِ للجمهوريةِ الإسلاميّةِ الإيرانيّةِ في مُناسبةِ مَعْرِضِ طهران الدوليّ للكتاب، في دورته الخامسةِ والثلاثينَ لهذا العام ٢٠٢٤، وهو المعرضُ الذي زارَهُ قبلَ أيامٍ قليلة من استشهادِه، ليقفَ على آخرِ الإصداراتِ فيه، وأهمِّ الاحتياجاتِ التي من شأنها أن تُحقّقَ الارتقاءَ والنهوضَ بصناعة الكتاب، لتحصين وعي أبناءِ الأمّة وتعميقِه.
نعم، لقد كانَ اللقاءُ بالرئيس الإيرانيّ الشهيد الدكتور إبراهيم رئيسي واحداً من أهمِّ اللقاءاتِ بزعيمٍ عَشِقَ فلسطينَ والمُقاوَمةَ، فأخلصَ لهما قولاً وعملاً، كما أنّ هذا اللقاءَ جعلَني أكثرَ يقيناً بقُدرةِ الإيمانِ بالنصر على فعلِ الكثير، وعلى تحقيقِ الخلاصِ والتحرُّرِ من الاستعمار، واستعادةِ الحُقوقِ المُغتصَبة.
لكَ الرحمةُ أيُّها الرئيسُ المُثقّفُ المُؤمِنُ بنصرِ الله، والمُوقِنُ بقُدرةِ الشعوبِ المُستضعَفةِ على انتزاعِ الحقوقِ من صدور مُغتصبِيها.
لكَ الرحمةُ، وأنتَ المُؤمنُ بقُدرةِ الكلمةِ على فعلِ الكثيرِ في زمنٍ تخلّى فيهِ بعضُهم عن قُدسيّةِ الكلمة ودورِها الفاعلِ في معركةِ استعادةِ الحقِّ المُغتصَب.
كم كنتُ فخوراً بذلكَ اللقاءِ وبتلكَ الشخصيةِ المُثقّفةِ المُؤمنةِ الواثقةِ بتحقيقِ النصرِ بعدَ الأخْذِ بالأسبابِ وحُسنِ إدارةِ المعركة.
سيبقى ذِكْرُك خالداً في قلبِ كُلِّ شخصٍ وعَقْلِهِ ممّن التقى سيادتَكم، وحَلّقَ في عَوالمِ أفكارِكم وطهرانيّةِ ثقافتِكم.
سنفتقدُ ثقافتَكم ووعيَكم وصلابةَ موقفِكم المُقاوِم، فخامةَ الرئيس الدكتور إبراهيم رئيسي، كما سنفتقدُ ديبلوماسيّةَ وزيرِ خارجيّتِكم “حُسَين أمير عبد اللهيان وحِكمتِهِ وحنكتِه، وهو الذي استطاعَ تحقيقَ كثيرٍ من الإنجازات، في الفترةِ الماضية، وفي المواقعِ التي شَغَلَها كُلَّها، خاصّةً مع تكثيف الجهودِ الدبلوماسيّةِ بشأنِ الحربِ العُدوانيّةِ التي يعيشُها الشعبُ الفلسطينيُّ في غزّة.
ستكونُ فرحةُ “الموساد” الصهيونيّ وقوّات الاحتلال الغارقة في وهمِ هزائمِها كبيرةً جدّاً، خاصّةً بعدَ استباقِها إعلانَ استشهادِكم بقولها: “لقد رحَلُوا”، لكنّ هذا المُحتلَّ تناسى أنّ من كانَ مِثلَكم لا يُمكنُ أن يموتَ أبداً، لأنّ هذا النهجَ لم يَصْنَعْهُ فردٌ، ولا ينتهي برحيلِهِ، بل هو أعمقُ من ذلكَ بكثير.