الثورة _حسين ملحم:
في التاريخ لحظات لا تمحى من الذاكرة ولا تُقاس إلَّا بقدرتها على إعادة رسم المشهد بأكمله.
لحظات تقف فيها الأمم أمام المرآة لتسأل نفسها: هل نبقى أسرى الماضي، أم نصنع ملامح الغد؟، وكما لو أنّ القدَر يضع الجمهورية العربية السورية اليوم أمام هذا السؤال المصيري، تنطلق دبلوماسيتها نحو فضاءات جديدة، تستعيد حضورها وتعيد تشكيل سرديتها في المنطقة والعالم.
وفي هذا السياق، تأتي زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى الرياض.. لا بوصفها حدثاً دبلوماسياً عابراً، بل بوصفها خطوة في مشروع إعادة التموضع الاستراتيجي لدولة أنهكتها الحروب، لكنها لم تتخلَّ عن إرادة النهوض.
إنّها لحظة اختبار للإرادة السياسية، وللقدرة على تحويل الألم إلى قوة والماضي إلى درسٍ للمستقبل.
تُمثّل الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس الشرع إلى المملكة العربية السعودية، للمشاركة في مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار بنسخته التاسعة، لحظة سياسية تتجاوز حدود البروتوكول واللقاءات الثنائية، لتندرج في سياق أوسع من إعادة تشكيل موقع سوريا في منظومة العلاقات الإقليمية والدولية.
فالزيارة، وهي الثالثة خلال أقل من عام منذ سقوط الديكتاتور المخلوع، تكشف عن مسارٍ جديد في فهم الدولة السورية لوظيفتها الجيوسياسية من انفتاح محسوب، واستعادة تدريجية لدورٍ فُقد بفعل أحمق من ديكتاتور ولّى هارباً إلى موسكو.
فيرسل الرئيس الشرع رسالةً مخفية إلى الشعب السوري، قائلاً: لا يمكن أن نكتفي بأن نكون ورثة الماضي، بل يجب أن نصير مهندسي المستقبل.
ففي الرياض، خاض الرئيس الشرع لقاءاته الرفيعة، في تعبير عن إرادةٍ سياسية مزدوجة لفتح أبواب التعاون والمضي قُدُمَاً فالسياسة حفرٌ بطيء في صخورٍ صلبة بإصرارٍ وعقلانية.
كما التقى الرئيس عدداً من كبار المستثمرين الدوليين، واضعاً مشاريع الاستثمار وإعادة الإعمار في محور الحوار، انطلاقاً من القناعة التي تقول بأن الاقتصاد هو حجر الأساس في ترميم الدولة والأمة اللتين أنهكتهما الحروب.
وعلى هامش المؤتمر، حمل لقاء الرئيس الشرع مع رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (FIFA) فيفا) جياني إنفانتينو بحضور اللقاء وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني رسالة بليغة عن دور الرياضة كجسر للعبور إلى الانفتاح الدولي، فالرياضة قوة توحيدية تتجاوز كل الاختلافات.
إنّ ما يجري ليس مجرد دبلوماسية مجاملة، وزيارات للإطراء بل بناء لفلسفة سياسية جديدة في سوريا ما بعد الأزمة: براغماتية عقلانية، واستعادة للثقة الإقليمية، وتشييد لشبكة مصالح تقي من الهشاشة وتعزز السيادة.
وفق المنظور الفلسفي لنظريات بناء الدولة بعد الصراع: الشرعية تُبنى من خلال التواصل والاعتراف المتبادل.
هكذا تعود سوريا إلى العالم لا كدولة متلقّية للأحداث، بل كصانعة لها.
إنها رحلة بحث عن دورٍ جديد، تُكتب اليوم ملامحها في الرياض.. رحلة تذكّر بحكمة أرسطو: “السياسة هي فنّ العيش المشترك في المدينة الصالحة”.