الثورة – فردوس دياب:
بين الأفكار المتسلطة والطقوس القهرية، تدور حلقة مفرغة من المعاناة يعيشها أصحاب الاضطراب الوسواس القهري، إنه ذلك الصراع الخفي بين الوعي بغرابة الأفكار والعجز عن مقاومتها، اضطراب لايقتصر على هواجس النظافة أو الترتيب بل يمتد ليشكل سجناً نفسياً يحتاج إلى مفتاح العلم لفك قيوده.

للوقوف على تفاصيل هذا الموضوع، التقت صحيفة الثورة الاختصاصية في علم النفس الإكلينيكي الدكتورة خنساء وليد البدوي التي أكدت في بداية حديثها، أن المصاب باضطراب الوسواس القهري، يعيش في صراع يومي مرير، حبيساً بين أفكار تلح عليه لا يستطيع كبحها، وسلوكيات يشعر بإلزامية القيام بها لتخفيف القلق الناتج عن تلك الأفكار، فهو ليس مجرد “حرص على النظافة” أو “دقة في الترتيب” كما يُظن، بل هو اضطراب قلق حقيقي، تتميز أفكاره ومخاوفه بأنها غير منطقية، لكنها مع ذلك تفرض سلوكيات قهرية على الفرد.

وبينت البدوي أن المحير في هذا الاضطراب هو أن المريض غالباً ما يكون واعياً تماماً لغرابة وساوسه وعدم منطقية تصرفاته، ويبذل جهداً مضنياً لمقاومتها أو تجاهلها، لكن المفارقة الأليمة هنا أن محاولة القمع هذه لا تنجح، بل تزيد من حدة الضائقة والقلق، ما يدفع المريض في النهاية للاستسلام للسلوك القهري كمنفذ .
لا إرادية وغير منطقية
وأضافت أن الوسواس القهري يتميز بأعراض وسواسية وقهرية ، فأما الوسواسية فهي أفكار وتخيلات متكررة مراراً ، أو عنيدة لا إرادية تتسم بأنها تفتقر إلى أي منطق، وهذه الوساوس تثير الإزعاج والضيق عند محاولة توجيه التفكير إلى أمور أخرى، أو القيام بأعمال أخرى ، أما بالنسبة للأعراض المرتبطة بالوساوس القهرية، فهي حسب البدوي، تنبثق من سلوكيات قهرية كرد فعل، مثل الطقوس التنظيفية، كغسل اليدين بشكل متكرر ومبالغ فيه وبما يؤدي إلى جروح والتهابات جلدية، وكذلك طقوس التأكد من إغلاق الأبواب أكثر من مرة، والعد والترتيب، حيث يشعر المريض بأمان زائف عند تنفيذ أفعال معينة بعدد أو ترتيب محدد، رغبة في الصراخ الشديد.

وهذه السلوكيات، وفقاً للبدوي، تتطور أحيانًا لتأخذ شكل “طقوس” معقدة، تمثل حلقة مفرغة من المعاناة ووساوس تسبب قلقاً، يؤدي إلى فعل قهري لتخفيفه، فيعود الوسواس أقوى وتختلف وساوسه وأفعاله القهرية من شخص لآخر، لكنها تلتقي في جوهر المعاناة، ومن أبرز هذه الوساوس الخوف من التلوث والجراثيم، حيث يسيطر هاجس العدوى على عقل المريض والحاجة المفرطة للنظام والدقة والتناظر، أي اختلال بسيط يسبب قلقاً هائلاً وكذلك تخيلات أو أفكار عدوانية أو جنسية غير مرغوبة، تسبب ذنباً وقلقاً شديداً للمريض رغم أنه لا ينوي تنفيذها.
فهم عميق
وأكدت البدوي أن الوسواس القهري يؤثر على الحياة اليومية للشخص المصاب ويستنزف وقته وجهده ويمنعه من أداء مهامه اليومية، وكذلك يجعله يبتعد ويعوق علاقاته الاجتماعية والشخصية إلى الحد الذي يسبب له صعوبة في مغادرة المنزل أو القيام بالأنشطة التي كان يستمتع بها سابقاً.
وذكرت البدوي أن التعامل مع مريض الوسواس القهري يحتاج إلى فهم عميق لطبيعة معاناته، وهذا يحتاج إلى تدخل متخصص، يجمع بين العلاج الدوائي والسلوكي المعرفي، والذي أثبتت فاعلية كبيرة في كسر هذه الحلقة وبالتالي يجب طلب المساعدة المبكرة.
كما أن الوعي المجتمعي بطبيعة الوسواس القهري، يعتبر بحسب الدكتورة خنساء البدوي، الخطوة الأولى لتشجيع المرضى لحياة أكثر من دون خجل أو وصمة، فطلب العلاج ليس عيباً، كما أن للأسرة دوراً كبيراً في فهم طبيعة المرض ودورها في دفع المريض نحو العلاج بدلا من اللوم والصراع الذي يفاقم المشكلة، فالعافية النفسية هي سبيلنا لحياة أكثر إنتاجية واستقراراً أن الوسواس القهري ليس مجرد هواجس عابرة، بل هو معاناة حقيقية يمكن التغلب عليها بالعلم والوعي والعلاج المناسب.
وختمت البدوي حديثها بالإشارة إلى أن الدراسات أكدت أن الوسواس القهري من أكثر الاضطرابات النفسية انتشاراً خلافاً للاعتقاد السابق أنه نادر وغالباً ما تبدأ جذوره في سن مبكرة، في مرحلة الطفولة أو المراهقة وبصورة عامة في سن (العاشرة)، أو عند البالغين (حوالي الحادية والعشرين)، ما يؤثر سلباً على المسار التعليمي والاجتماعي للفرد في سنوات تكوينه.