دمشق الذكية.. من ماروتا وباسيليا إلى مدينتين خضراوين

الثورة- تحقيق – هلال عون:

في قلب دمشق، حيث الحفاظ على العمارة القديمة تلتقي بآمال إعادة الإعمار، يطلّ اقتراح طموح يهدف إلى تحويل ما كان يُقرأ سابقاً كمشاريع سكنية إلى نموذج حضري جديد، مدن ذكية خضراء شبه مستقلة تُدار بمعايير عالمية.
المقترح، الذي وضعه، الخبير الاقتصادي والتقني، رجل الأعمال، فيصل عطري، لا يكتفي بتجميل الواجهات أو تركيب ألواح شمسية، بل يقترح تحولاً هيكلياً في مفهوم السكن الحضري، مجمّعات مغلقة تُدار كمنتجعات فاخرة، بذاتها خدمياً وكهربائياً ومائياً ومرورياً، مع نظام عدالة تعويضي لأصحاب الأراضي.
هذا التحقيق يضع تصور “عطري” تحت المجهر، ويشرح تفاصيله التقنية، ويتتبّع آليات تمويله، ويقيّم منافعـه ومخاطره، ويعرض الأسئلة القانونية والاجتماعية التي يثيرها مشروع بهذا الحجم في دمشق اليوم.

 

من أين انطلقت الفكرة؟

يرى عطري، وهو صاحب الاقتراح أن المشكلة ليست في تصميم أبنية جديدة فحسب، بل إن الأساس يكمن في بنى تحتية عامة منهارة تجعل أي مشروع تقليدي عرضة للفشل.. لذا يقول: “الحل ليس في تحسين البنية القائمة، بل في إعادة بناء منظومة خدمات جديدة ومستقلة” – منظومة تولد كهرباءها، وتدير مياهها، وتنقل سكانها، وتتعامل مع نفاياتها طبق معايير عالمية.
المنطلق واضح، وهو: إذا كانت بنية المدينة لا تسمح بجودة معيشية لائقة للسكان، فيمكن خلق “جزيرة حضرية” مستقلة داخل المدينة الكبرى، تحاكي مستوى العيش في دول متقدمة وتقدّم تجربة حضرية مترفة ومتجاوبة تقنياً وبيئياً.
يشرح صاحب المقترح (الدراسة) فيصل عطري: “بإيجاز، يقوم المشروع على تحويل منطقتي ماروتا وباسيليا إلى مجمّعات ذكية ومغلقة (Smart Enclave System – SES) تتميز بـما يلي:
أولاً: إدارة عالمية احترافية بمعايير خمس نجوم.
ثانياً: استقلالية كهربائية ومائية وخدمية.
ثالثاً: نظام دخول صارم قائم على صلاحيات ذكية.
رابعاً: أنفاق ذكية تحت الأرض لحل ازدحام المرور.
خامساً: مواقف روبوتية عمودية ونقل ذكي للضيوف.
سادساً: بنى خضراء، أسطح نباتية، جدران عمودية، ممرات خضراء وحدائق جيبية.
سابعاً: نظام فرز نفايات متقدم، وفندق 5 نجوم ومولات تجارية.
ثامنا: آلية عدالة تعويضية لأصحاب الأراضي تحولهم إلى شركاء في المشروع”.

القيم التفصيلية والآليات

ويوضّح القيم التفصيلية والآليات الفنية الواردة في مقترحه:
أولاً: المياه، تشمل خزانات مياه سعة 10,000 م³ لكل مجمّع، منظومة ثلاثية للمياه (مياه معبّأة للشرب – مياه محلاة للاستخدام – مياه رمادية مُعاد تدويرها للري)، ومحطات طاقة هجينة من ألواح شمسية ومولدات غازية.
ثانيا: آلية العدالة لأصحاب الأراضي تتم بتحويل الضحية إلى شريك.
وبخصوص آلية التعويض لأصحاب الأرض المتضررين، اعتبر عطري أن أحد أبرز عناصر اقتراحه هو تقديم آلية تعويض مختلفة عن التعويضات النقدية التقليدية التي تؤدي إلى نزاعات أو عجز تمويلي للدولة، وذلك من خلال إنشاء هيئة مستقلة – تحت إشراف قضائي ومكتب محاسبة عالمي – مهمتها تقييم حقوق أصحاب الأراضي خلال 60 يوماً كحد أقصى.
وتجري التقييمات بواسطة ثلاث جهات مستقلة وتُعتمد القيمة الأعلى، ثم تمنح للمالك إحدى الخيارين الحصريين:
أولاً: حصة سهمية في المشروع قابلة للتداول بعد خمس سنوات.
ثانياً: وحدات سكنية أو تجارية بقيمة معادلة مع إمكانية التقاص.
ويرى عطري أن هذه الآلية تؤكد على هدفين متلازمين، هما: تفادي دفع مبالغ نقدية طائلة مرهقة للخزينة، وتحويل المالك إلى شريك مع مصلحة مباشرة في نجاح المشروع، ما يقلل مخاطر التقاضي ويعزّز الاستقرار القانوني والاستثماري.

إدارة الكهرباء والماء والنقل

تحدّث عطري عن منظومة كهربائية خاصة بكل مجمّع تعمل 24/24 ساعة، مؤلفة من مزيج من ألواح شمسية موزعة على واجهات وأسقف، ومولدات غازية احتياطية، وأنظمة تخزين طاقة.
ويبقى الربط مع الشبكة العامة خياراً ثانوياً للاستجرار عند الحاجة، لكن الأسعار داخل المشروع لا تخضع لتعرفة الكهرباء الوطنية، ما يُفترض أن يعزز من ضمانية الخدمة ويُخفف من تقلبات انقطاع التغذية.
والهدف – كما يوضح عطري الهدف هنا مزدوج:
أولاً: استقرار الخدمة وسعر معقول للمقيم.
ثانياً: خلق مصدر دخل عبر تصدير فائض الطاقة في فترات الذروة.

يعتبر الماء محوراً حاسماً في بيئة دمشق

يقترح عطري إنشاء محطات تحلية لامركزية، ومحطات لمعالجة المياه الرمادية، مع فصل شبكات الأنابيب لنظام مزدوج:
– مياه صالحة للشرب والطهي.
– شبكة منفصلة للري والتنظيف.
ويتم توريد مياه الشرب يومياً بعبوات معيارية (18 ليتراً) من معامل معتمدة.
أما مياه الاستخدام المنزلي، فيتم تأميننها من تحلية مياه جوفية بتقنية التحلية بعكس الأسموز منخفض الطاقة وتنقية مياه الأمطار.
ولم ينس الاقتراح مياه الري والتنظيف، التي يتم تأمينها من إعادة تدوير كاملة للمياه الرمادية بنسبة 100%.
كذلك لابد من خزان مركزي بسعة 10,000 م³ لكل مجمع كضمان لتغطية الطلب خلال فترات الانقطاع أو الطوارئ.
وبخصوص النقل وحل الازدحام اقترح إنشاء شبكة أنفاق ذكية متعددة الطبقات.
ومن أكثر المقترحات تقنية وطموحاً هو إنشاء شبكة أنفاق ذكية (Smart Subterranean Mobility Grid – SSMG) بطابقين، يكون الطابق العلوي مخصصا للحركة المستمرة للسيارات الخاصة، منخفض الوقوف والتوقف، ومزوّد بإدارة حارات ذكية وكاميرات وتحكم ديناميكي بالسرعة.
أما الطابق السفلي فمخصص للطوارئ والخدمات.
ويتضمن التصميم استخدام درع حفر مناسب لتربة دمشق (يشار إليه بتقنية TBM مع Slurry Shield)، ومنصة حجز إلكترونية تتيح لكل ساكن حجز نافذة زمنية لدخول وخروج سيارته، ما يقلل من الاختناقات المرورية عند مداخل ومخارج المجمع. كما تُزوّد مخارج الأنفاق بشاشات ذكية تبين حالة الازدحام وتقترح مخارج بديلة في الوقت الحقيقي.

المواقف الروبوتية

للتعامل مع القيود المكانية، يقترح المشروع مواقف روبوتية عمودية تربط كل زوج من الأبراج بمصف عمودي آلي قادر على استعادة السيارة في أقل من 90 ثانية، وهذا يوفر نحو 70% من مساحة المواقف التقليدية ويمنع دخول الأشخاص إلى مناطق تخزين السيارات، ما يزيد الأمان ويقلل من السرقات والأعطال.
وفي نقاط الاستقبال، تنتظر الزوار سياراتٌ كهربائية ذاتية تنقلهم إلى بوابة المبنى المقصود، ولم ينس تخصيص محطات شحن سريعة وعدد من مواقف الشحن بمواصفات AC لساكني الوحدات الخاصة.

البنية الخضراء

يعتبر عطري الجانب البيئي حجر أساس في التصور، لذلك يدعو لتغطية الأسطح بالجزر الخضراء، وجدران عمودية تغذَّى بالمياه الرمادية، وممرات خضراء بأشجار محلية مقاومة للجفاف.
ويتجنّب المقترح النباتات المستوردة الموفرة للمظهر فقط، ويؤكد على النباتات المحلية مثل الخزامى والزعتر والصبار، التي تستهلك ماء أقل وتدعم الملقحات.
يتضمن المقترح حدائق جيبية لكل برج (50–100 م²)، حديقة مركزية كبيرة تشبه «هايد بارك» مصغرة وبحيرة اصطناعية تعمل كخزان لمياه الأمطار.
ويشجّع المشروع الزراعة الحضرية عبر أسطح مخصّصة لزراعة أعشاب طبية وعطرية ومقاسم صغيرة للسكان.
ولم يغفل المقترح دعم التنوع البيولوجي عبر تركيب خلايا نحل وأعشاش صناعية للطيور المحلية، ما يسهم في تلقيح النباتات المحلية وإعادة الروابط الإيكولوجية للمناطق الحضرية.

إدارة النفايات

يرتبط نجاح أي بيئة حضرية مستدامة بإدارة نفايات متكاملة، لذلك يقترح النموذج تطبيق نظام فرز عند المصدر بخمس فئات: عضوية، قابلة لإعادة التدوير، غير قابلة للتدوير، خطرة، وحجمية.
ولكل مبنى وحدة فرز صغيرة، وتوجد وحدة معالجة مركزية للمشروع تتعامل مع النفايات عضوياً وتحولها إلى سماد أو طاقة حيث أمكن، وتخصّص مسارات لجمع المواد الخطرة وإرسالها لمعالجة خارجية آمنة.
وهذا الترتيب لا يهدف فقط للتقليل من الأثر البيئي، بل يفتح أيضاً آفاقاً اقتصادية عبر تدوير المواد وتأجير محطات التحويل.

الإدارة والأمن والتمويل

يقترح عطري أن تُدار هذه المجمعات عبر شركة إدارة عقارية عالمية بعقود طويلة الأمد، تضمن معايير تقديم خدمة خمس نجوم، فيها أمن ذكي (كاميرات، بوابات متحكم بها، نظام تعرف بالوجوه)، غرف تحكم مركزية، فرق استجابة طوارئ مرتبطة بالدفاع المدني، وبرامج تدريب دورية.
وأمور مثل وقوف السيارات، النظافة، صيانة الأنظمة، وإدارة المرافق تُدار بمقاييس واضحة وشفافة، على أن تغطيها رسوم إدارة شهرية ثابتة مدفوعة من السكان.
ويعتمد النموذج المالي على ثلاثة مصادر رئيسية، هي:
أولاً: رسوم أولية تُضاف إلى سعر الوحدة العقارية عند البيع.
ثانياً: رسوم إدارة شهرية تغطي التشغيل (كهرباء، مياه، أمن، صيانة).
ثالثاً: عوائد استثمارية من الأصول التجارية (مولات، فندق 5 نجوم)، مواقف السيارات والإيرادات الطاقية.
كما يُفترض أن تولّد الشبكات الكهربائية الداخلية فائضاً يُمكن بيعه أو استثماره، وأن توفر محطات المياه المعالجة خدمات مائية مدفوعة للمرافق التجارية داخل المشروع.

تحديات

لا يخلو المشروع من تحديات جسيمة، من أهمها:
الشرعية القانونية والتخطيطية، فتحويل مساحات كبيرة داخل المدينة إلى مجمّعات مغلقة قد يتطلب تغييرات تشريعية، وموافقة هيئات التخطيط، وحل قضايا الملكية على مدى واسع.
وكذلك قبول المجتمع، ففكرة «الانغلاق» والفصل عن المحيط تثير أسئلة اجتماعية حول التفاوت في الوصول للفرص والخدمات، وقد تثير تحفظات لدى سكان المدينة المهجرين أو المتضررين من إعادة التخطيط.
كذلك السعر والسياسة، إذ يجب معرفة قدرة السكان المحليين على تحمل رسوم إدارة شهرية مرتفعة أو أسعار وحدات بحسب مواصفات فاخرة قد تجعل النموذج يقتصر على فئة معينة، ما يعيد انتاج التقسيم الاجتماعي الفضائي.

التنفيذ ومخاطر الاستثمار

المشاريع الضخمة تحتاج مستثمرين محليين ودوليين، ففي حال عدم استقرار سياسي أو اقتصادي، قد تتعرض موارد المشروع لمخاطر مالية كبيرة.
أما التكامل مع المدينة فبينما يسعى المشروع إلى استقلالية تشغيلية، إلا أن فصل الخدمات يمكن أن يخلق شبكات متوازية يصعب دمجها مع المدينة الأوسع على المدى الطويل.
المقترح يقرّ بأن التنفيذ قد يكون تدريجياً – بداية ببناء أنظمة طاقة ومياه مستقلة جزئياً، ثم توسيعها، وإدخال مواقف روبوتية وممرات خضراء تدريجياً. يُتيح هذا المسار التخفيف من تكلفة البدء، واختبار تقنيات جديدة في نطاق محدود قبل التوسيع.
وفي المقابل، هناك منطق فني يقول بأن بعض عناصر الاعتماد الذاتي تحتاج تنفيذاً متوازيا (مثل التحكم المركزي للطاقة والمياه) وإلا ستبقى الفوائد محدودة.

المنافع.. إذا نجح المشروع

إذا تحقق المشروع كما طُرح، فهناك منافع يمكن حصرها في:
أولاً: نموذج حضري جديد قادر على استيعاب الخدمات الأساسية في ظل بنى تحتية ضعيفة.

ثانياً: خلق فرص عمل متعلقة بالبناء، التشغيل والصيانة، وإدارة الخدمات.

ثالثاً: تحويل “متضرري” التطوير إلى شركاء اقتصاديين يقلل من النزاعات القانونية.

رابعاً: دروس واستراتيجيات قابلة للتكرار في مناطق أخرى تعاني نقصاً في الخدمات.

آراء في المقترح

المهندس حسام أبو النصر يرى أن تحويل ماروتا وباسيليا إلى مدينتين ذكية وخضراء هو تصور طموح يلامس حاجة حضرية حقيقية، وهي: كيف نمنح المواطنين مستوى معيشياً لائقاً في مدن تعاني انقطاع الكهرباء والمياه والبنية التحتية؟
الخبير الإداري د. عبد المعين مفتاح يرى أن المقترح يقدّم إجابات تقنية مفصلة وأطراً إدارية مبتكرة، لكنه يطرح أيضاً أسئلة عميقة عن العدالة الاجتماعية، الشرعية والتكامل الحضري.
الخبير العقاري علي الفارس يرى أن الفكرة تحمل قيمة كنموذج تجريبي يمكن أن يكشف عن حلول مبتكرة قابلة للتكييف، لكنها تحتاج إلى توافق سياسي ومالي، وضمانات قانونية واجتماعية تضمن عدم تحويل التجربة إلى مساحة حصرية تغلق أمام الأغلبية.
المهندس المدني، نوفل زودة، قال لصحيفة الثورة: المقترح مهم جداً، وفيه عصف ذهني وطني، يحاول الوصول إلى أنموذج متقدم خاص بكيفية إعادة التفكير في التخطيط الحضري، بحيث يلتحم الطموح التكنولوجي مع مبادئ العدالة والاستدامة، وتكون دمشق ليست فقط مدينة تبني، بل مدينة تعيد بناء نفسها بذكاء أخضر، يحترم ماضيها وينظر إلى مستقبلها بجذور ثابتة وأفق مفتوح.

آخر الأخبار
"المركزي": تفعيل التحويلات المباشرة مع السعودية يدعم الاقتصاد لجنة "سلامة الغذاء" تبدأ جولاتها على المعامل الغذائية في حلب "إعمار سوريا": نافذة الأمل للمستثمرين.. وقوانين قديمة تعوق المسيرة محافظ حلب يفتتح ثلاث مدارس جديدة في ريف المحافظة الجنوبي تعاون بين "صناعة دمشق" ومنظمة إيطالية لدعم التدريب وتأهيل الشباب الرئيس الشرع يبحث مع الأمير بن سلمان التعاون الثنائي آلية جديدة لخفض تكاليف إنتاج بيض المائدة في دمشق وريفها  سوريا تعلن اعترافها الرسمي بجمهورية كوسوفو دولة مستقلة وذات سيادة  الرئيس الشرع خلال جلسة حوارية في الرياض: السعودية تشكل أهمية كبرى للمنطقة وسوريا ركيزة أساسية لاستقر... 2500 فرصة عمل في ملتقى بوابة العمل الرابع بدمشق "الرياض 2025".. ضوء أخضر لجذب الاستثمارات العالمية إلى سوريا الشرع يلتقي السواحة وأبو نيان والجاسر في الرياض خبير نفطي يقترح خطوات إنقاذية لقطاع النفط المتهالك الوفد السوري يشارك في لقاء النخب الاقتصادية بالرياض عاصم أبو حجيلة: زيارة الشرع للرياض تعيد رسم خريطة النفوذ في المنطقة دمشق الذكية.. من ماروتا وباسيليا إلى مدينتين خضراوين "تقانة المعلومات": خطوات ثابتة نحو أمن رقمي متكامل مشاركة سوريا في "مبادرة الاستثمار" رسالة اطمئنان للمستثمرين إطلاق مشروع الإشارات المرورية الذكية ضمن حملة "لعيونك يا حلب" تنظيم الساحات في دمشق.. خطوة نحو استعادة رونق العاصمة