تدهور التّعليم في الشمال.. أزمة حقيقيّة في ظلّ الظروف الراهنة

الثورة – راما نسريني :

بينما يمثل التعليم حقاً أساسياً للأطفال، يتحمل بعضهم أعباء أعمال شاقة لا قبل لهم بها، ويحرمون من حقهم في مقعدٍ دراسي من شأنه أن يغيّر مستقبلهم بالكامل، وقد يعود ذلك لظروف مادية تعيسة يمرّ بها الأهل، لا تسمح لهم بتحمّل الأعباء المادية المترتبة على التعليم الذي يوصف في سوريا بالمجاني، إلا أن الوضع على أرض الواقع مختلف قليلاً.

نتابع التسرب المدرسي وأسبابه والحلول الممكنة لهذه القضية الخطيرة في هذا التحقيق.

للفقر دور

تبلغ تكلفة تجهيز الطالب الواحد مع بدء العام الدراسي، نحو نصف مليون ليرة سورية وسطياً، ما بين قرطاسية وملابس للمدرسة، الأمر الذي يُجبر الأهل في بعض الأحيان على العزوف عن إرسال أبنائهم إلى المدارس، وتوجيههم لسوق العمل في مجالات شتى، فبحسب احصائيات لمنظمة “منسقو استجابة سوريا”، بلغت نسبة الأطفال المتسربين من المدارس في الشمال السوري عام 2023 نحو 85بالمئة، بعدد كلي بلغ 318 ألف طفل. وفي رقم صادر عن وزارة التربية في نيسان من هذا العام فإن عدد المتسربين من المدارس في عموم سوريا بلغ نحو مليوني طالب، يعملون في مهن مختلفة، بعضها يصنَّف خطِراً وغير مناسب للأطفال. يقول المواطن محمد حوري: ” أنا أب لخمسة أطفال، أكبرهم في الخامسة عشرة من عمره، في تقدير وسطي احتاج لثلاثة ملايين ليرة مع بداية العام الدراسي، العبء الذي لم أستطع تحمله”.

يشرح محمد حوري لصحيفة الثورة وضعه المادي، فيشير إلى أن عمله في مهنة النجارة لا يُؤمن له الدخل الكافي لإنفاق تلك المبالغ الطائلة على التعليم، مضيفاً أنه اضطر للتفضيل بين أبنائه، حيث التحق ثلاثة من أطفاله الصغار بالمدارس، بينما يساعده أكبرهم والأصغر منه في عمله بالنجارة، واصفاً المشهد بأنه أقرب ما يكون للعدالة، فالطفل الذي لم يحظَ بفرصة التعليم، أتيحت له فرصة تعلّم مهنة يستطيع من خلالها أن يعيش حياة كريمة في المستقبل، على حد تعبيره.

لا معيل لهم

“بعد وفاة والدهم، لا معيل لنا سوى الله، ولم أجد حلّاً سوى العمل من المنزل، بينما يساعدني أطفالي الثلاثة في ذلك”، تعبّر سمر الأسود لـ “الثورة” وهي أرملة ترعى ثلاثة أطفال، عن عدم قدرتها على إرسال أطفالها للمدارس، وذلك لاعتمادها عليهم في الإنفاق على المنزل، وتابعت أن ابنتها “مها” البالغة من العمر 13 عاماً، تساعدها في خبز الحلويات من المنزل، بينما يقوم ابنها الأوسط ببيع تلك الحلويات في أسواق المدينة، لكن الاعتماد الكلّي على ابنها الأكبر البالغ من العمر 15 عاماً، الذي اتجه للعمل في ورشة خياطة بعد وفاة والده، لتأمين احتياجات العائلة، التي أصبح على صغر سنه معيلها الأول. وأكدت في حديثها لصحيفة الثورة أن المعونة التي تحصل عليها من الجمعيات الخيرية، لا تكاد تكفي لسدّ الاحتياجات الأساسية للعائلة، ممّا حرم أطفالها من حقهم في التعليم، وأجبرهم، رغم صغر سنّهم، على تحمّل مسؤوليات، تمحو ما تبقى من معالم طفولتهم، وتحرمهم من أبسط حقوقهم.

ما الفائدة من التعليم ؟!!

على الجانب الآخر يفضّل البعض عدم إرسال أطفالهم للمدارس طوعاً، وذلك لعدم جدوى التعليم والشهادة الجامعية من وجهة نظرهم، حيث اعتبر توفيق حاج أحمد “جزار”، يقيم في حي الصالحين لـ “الثورة”، أن التعليم ليس سوى مضيعة للوقت، مضيفاً:” يكفي أن يتعلم الطفل القراءة والكتابة، حتى أرسله لتعلم مهنة ما، من شأنها أن تدر عليه أرباحاً في المستقبل، بدلاً من هدر سنوات عمره في التعليم، ثم البدء برحلة البحث عن عمل”. وتابع حاج أحمد أنه استطاع خلال سنوات عمله الذي بدأ به مبكراً، شراء منزل وتأمين حياة كريمة لأفراد أسرته، وهو يريد لأولاده النهج نفسه، مشيراً إلى أن المجالات واسعة والمهن كثيرة، وترتبط بشكل وثيق بتفاصيل الحياة اليومية، أي لا غنى عنها ولا بديل لها في المستقبل، الأمر الذي يضمن استمرارية العمل، وبالتالي زيادة الأرباح وارتفاع المدخول الشهري وفقاً لتعبيره. وفي السياق نفسه، يميل بعض الأهالي لاستغلال أطفالهم، وتوجيههم للعمل بدلاً من انفاق المال عليهم في التعليم، الأمر الذي كشف عنه الطفل بكري. م البالغ من العمر 11 عاماً لصحيفة الثورة، حيث أكد أن والده يجبره على بيع الخبز على “البسطة” عوضاً عن الذهاب للمدرسة، بينما يعمل الوالد سائق سرفيس على خط سيف الدولة.

وأكد بكري عن رغبته الشديدة في إتمام تعليمه، وعن حلمه أن يصبح مهندساً، وعن حزنه الشديد عند رؤيته أقرانه من الأطفال، ذاهبين للمدارس صباحاً، متمنياً أن يحظى هو بفرصة مماثلة.

المدارس لا تكفي

في ظل القصف الهمجي الذي تعرضت له مدينة حلب وريفها، يعاني ريف حلب منذ سنوات من انهيار شبه كامل في قطاع التعليم، فقد تعرضت معظم المدارس هناك لدمار واسع بسبب القصف الجوي والمدفعي من قبل قوات النظام البائد وحلفائه، ما حوّل المباني التعليمية إلى ركام، خرج بعضها عن الخدمة كليًّا أو جزئيًّا، فيما تفتقر المدارس القليلة المتبقية إلى المقاعد والسبورات والوسائل التعليمية الأساسية.

هذا الواقع أدى إلى تفاقم أزمة التسرّب المدرسي وزيادة معدلات عمالة الأطفال، كما أن غياب الدعم المؤسساتي وضعف الإمكانيات، جعلا الأهالي يواجهون التحديات بشكل مباشر، إذ لجؤوا في أكثر من بلدة وقرية إلى حلول بديلة مثل استخدام الخيام والكرفانات أو تحويل المساجد والمنازل إلى فصول مؤقتة، في محاولة للحفاظ على حق أبنائهم في التعليم ومنع ضياع جيل كامل.

بعد تحرير البلاد، حظي هذا الملف باهتمام واسع فقد أشار مجلس مدينة حلب في بيان له، إلى ترميم 50 مدرسة في حلب، و العمل جارٍ على ترميم 140 مدرسة أخرى، وأنه من المتوقع استقبال 100 ألف طالب عائد خلال العام الحالي. إضافة لحملات عديدة قامت بها بعض الجميعات الخيرية وفرق تعاونية، تمثّلت في ترميم بعض المدارس أو توزيع بعض القرطاسية على الطلاب، أو افتتاح بعض المدارس للأيتام، كالتي قام فريق ملهم التطوعي بافتتاحها مؤخراً في الشمال السوري.

نحو تعليم أفضل

في حديثه لصحيفة الثورة، أكد مدير مؤسسة سراج التعليمية أسامة العزاوي، أن التسرب المدرسي يؤدي إلى مخاطر كبيرة على الطفل نفسه، من حيث حرمانه من بناء مستقبل مهني جيد، وزيادة تعرضه للمشاكل الاجتماعية والانحراف، كما يفقده المهارات الأساسية مما يزيد من عزلة المجتمع عنه، وله تأثير سلبي على الاقتصاد، حيث يخسر المجتمع طاقات بشرية، كان من الممكن أن تساهم في التنمية على حدّ تعبيره. وبين العزاوي أن للظاهرة أسباباً عديدة تتمثل في أسباب اقتصادية، مثل الفقر والحاجة لدخل الطفل، وأسباب تعليمية، مثل ضعف جودة التعليم والمناهج غير الجذابة والتنمر، وأسباب أسرية مثل جهل الأهل بأهمية التعليم والعنف، إضافة إلى أسباب اجتماعية مثل البعد الجغرافي للمدرسة وصعوبة المواصلات.

وأضاف: إن السبب الأهم الذي أثر بشكل كبير على سير العملية التعليمية، هو سنوات الحرب والحصار التي شكّلت أكبر عائق أمام متابعة التعليم، وأدت إلى تسرّب عدد ضخم من الطلاب. وأشار إلى أن الجهود الحالية تركز على العلاج أكثر من الوقاية، ولا يوجد تكامل حقيقي بين الجهات المعنية في هذا الخصوص، مبيناً أن البرامج لا تعالج الجذور الحقيقية للمشكلة، مثل الفقر وجودة التعليم، كما أن انعدام الخطط النوعية بعد تحرير البلاد سيجعل كثيراً من العائدين للمدرسة يتسربون مرة أخرى، كونهم يوضعون بصفوف نظامية (خاصة العائدين من تركيا وأوربا)، وهم بحاجة لبرنامج دمج، بحيث نقوي لغتهم العربية قبل وضعهم بصفوفهم المناسبة.

حلول

أما عن الحلول المقترحة، فقد عبّر العزاوي عن أهمية وضع خطط مناسبة تساعد العائدين إلى سوريا على العودة لصفوفهم المناسبة، مضيفاً:” الطلاب السوريون على مستوى جيّد جداً ببلاد الغربة، لكن الفاقد الحاصل باللغة العربية سيؤدي لعدم فهمهم لكافة المواد في حال تمّ وضعهم بصفهم حسب العمر، وهذا الأمر كارثي ويحتاج لخطط إسعافية.” ولفت إلى أن تحسين جودة التعليم وجعل المدرسة جاذبة للطلاب، وتقديم دعم اقتصادي مباشر للأسر الفقيرة، وتنفيذ برامج توعية مكثفة لأولياء الأمور، وإنشاء برامج مرنة لاستيعاب المتسربين وإعادتهم للتعليم وتعزيز الشراكة بين المدرسة والأسرة، كلها نقاط مهمة ستساهم في حلّ مشكلة التسرب المدرسي وعمالة الأطفال من جذورها.

القانون واضح ولكن؟!

بدورها أكدت مديرية الشؤون الاجتماعية لـ “الثورة”، أنه في حال العثور على حالات تشغيل أحداث خلال جولاتها التفتيشية، فإنها تقوم بمخالفة صاحب العمل على الفور، وذلك في إطار قانون العمل السوري رقم 17 لعام 2010 في مادته التي تتعلق بتشغيل الأحداث، حيث يفرض عقوبات على المخالفين لقواعد تشغيلهم، و يحدد القانون بدقة ساعات العمل القصيرة للأحداث، ويمنع تشغيلهم لساعات إضافية، ويفرض فترات راحة محددة، كما يحظر تشغيلهم خلال أيام العطل والأعياد الرسمية. فيما أكدت المديرية عدم وجود إحصائيات دقيقة لعدد الأطفال الذي يعملون في مهن مختلفة، وذلك لأن الأمر يحتاج لجهود مشتركة بين الجهات التعليمية والأهل والمجتمع المدني على حد سواء، للوصول لرقم واضح للأطفال العاملين والمنقطعين عن التعليم. وبينت المديرية أن المخاطر الناجمة عن عمل الأحداث، تشمل الأضرار الجسدية والنفسية والاجتماعية والتعليمية، متمثلة في الإصابات المهنية، ناهيك عن العنف والتحرش والاستغلال الاقتصادي إضافةً للتسرب من المدرسة، وتطور المشاكل الصحية النفسية والاجتماعية.

وتكمن خطورة هذه الظاهرة في تأثيرها السلبي على النمو الطبيعي للطفل وعلى مستقبله، بالإضافة لتسببها في خسائر للمجتمع والاقتصاد على المدى الطويل.

وأكدت المديرية على تغريم وليّ الحدث وتعرضه للملاحقة القانونية، إذا ثبت أن الحدث الذي يشغّله متورط في عمل غير قانوني، أو مخالف لقانون العمل السوري، موضحةً أن القانون يُلزم صاحب العمل بالحصول على موافقة خطّيّة من الولي وتزويد السلطات بالوثائق اللازمة.

وفيما يخصّ التسرّب المدرسي وإعادة تأهيل البنية التحتية المتهالكة للنظام التعليمي، فقد تواصلت صحيفة الثورة مع مديرية التربية والتعليم، حيث بيّنت رئيس دائرة الأبنية المدرسية آية صدور، افتتاح 81 مدرسة في المحافظة بالكامل، مقسمة بين 48 مدرسة في مدينة حلب و33 مدرسة في الريف، بعد أعمال التأهيل والصيانة. وأضافت أن المديرية تواصل أعمال الترميم والصيانة في باقي المدارس بالمحافظة، لضمان بيئة تعليمية آمنة ومناسبة لجميع الطلاب، وتابعت أن العمل جارٍ على قدم وساق لاستعادة كامل القدرة الاستيعابية للمؤسسات التعليمية.

أخيراً، لا بدّ من القول: لقد بدا واضحاً لنا، أنه رغم الدمار الكبير والبنية التحتية المتهالكة، فالسوريون يُؤمنون اليوم بامتلاكهم طاقات بشرية هائلة، من شأنها إذا توفرت لها بيئة حاضنة سليمة، على المستوى الثقافي والمعرفي، أن تغيّر وجه المستقبل بالكامل، وتعيد لسوريا مكانتها المرموقة بين دول العالم الكبرى، فهل ستتحرك الجهات المعنية لإنقاذ ما تبقى من جيل الحرب؟.

آخر الأخبار
افتتاح دائرة النقل في جامعة حلب بعد إعادة تأهيلها زراعة الفطر في جبلة فرصة بديلة عن المحاصيل التقليدية شراكة سعودية - سورية تقود التحول الرقمي التعليم في عندان .. الطلاب بالآلاف والكتب بالعشرات ومعلمون لا يكفون ! المليحة وشبعا بين الخصب ومكبات القمامة.. ومدير نظافة دمشق لا يجيب! "العربية أبوظبي" تبدأ رحلاتها المباشرة إلى دمشق سوريا في "FII9 ".. مشاركة في صياغة المستقبل لا الاكتفاء بمتابعته من بعيد منظومة طاقة شمسية لمشروع المجمع الحكومي الجديد بدرعا الشرع يبحث مع عدد من رؤساء البنوك والشركات السعودية التعاون المشترك جنرال أميركي: الرئيس الشرع رجل دولة وسوريا تستحق أن تمنح فرصة مشاركة الشرع في "مستقبل الاستثمار" نافذة استراتيجية نحو إعادة بناء سوريا تنظيم أم .. الجدل يحتدم حول منع البسطات في جرمانا! خطوة جديدة لتعزيز الشفافية وجذب الاستثمارات الصناعية بالشيخ نجار من الرياض هنا دمشق ..سوريا ترسّخ حضورها ودورها وعودتها دعم الزراعة التصديرية على طاولة تجارة ريف دمشق نقاشات لوضع اشتراطات خاصّة بتوظيف البيوت الدمشقية كمبانٍ سياحية مستدامة برامج لتأمين بيئة العمل الآمنة وبناء القدرات تعاونية قطنا لزيت الزيتون خطوة نحو تطوير الصناعات الريفية المواطنة الرقميّة لمكافحة الكراهيّة والمعلومات المضلّلة "الوسواس القهري".. الصراع بين الهاجس والإكراه