الملحق الثقافي-حبيب الإبراهيم:
إرتبط إسم المثقف تاريخياً بما يتركه من أثر، وما يحدثه من تغيير في المجتمع وبنيته الفكريّة والمعرفيّة والثقافية ، فالمثقف والثقافة صنوان إذ لا ثقافة فاعلة بدون مثقف واعي، مثقف مؤمن بقيم مجتمعية نبيلة ومبادىء تنويرية لا تقف عند عتبات الماضي، بل تتجاوزه إلى رؤى مستقبليّة..
ومع تطور المجتمعات ودخول عصر التكنولوجيا من أوسع أبوابها وسطوة الصورة وهيمنة رأس المال، توجب على المثقف أن يكون أكثر حضوراً وتأثيراً، إذ أنّه – أي المثقف – لم يعد وحده مصدر المعلومة والمعرفة وبوصلة التوجه، وخاصة مع إنتشار وسائل التواصل الاجتماعي والفضاء الأزرق وتراجع مكانة الكِتاب والصّحف الورقيّة والتي تحوّلت بمعظمها إلى إلكترونية..
في ظل هكذا واقع على المثقف أن يجيد السباحة والعوم في بحار الثقافة والمعرفة، وإن لم يفعل ذلك ويتفوق في مسعاه التثقيفي والتنويري سيتحول إلى زبدٍ على شواطىء منسيّة.؟
في المنظور الشعبي ارتبطت شخصية المثقف في ذهنية الكثيرين من يحمل كتاباً وجريدة فيسارعون بالقول :هذا شاب مثقف؟!
إزدادت أهمية المثقف من خلال دوره الريادي التنويري، وتأثيره القوي والمتنامي والمتسارع في الرأي العام وقيادة المجتمع.
المثقف في أي مجتمع يشكّل الطليعة الواعية القادرة على الفهم والتحليل وتقديم الرؤى والأفكار لصنّاع القرار، المثقف يعدُّ أداة التغيير الإيجابي، والواجهة الأمامية للمشهد الثقافي برمّته ، لأنه الأقدر على التقاط اللحظة وتحليل الحدث، ومحاكاة الحلول بديناميكية وواقعية، وفهم علمي ومنطقي دقيق.
والمثقف سواء أكان شاعراً، كاتباً، صحفياً، فناناً، مؤرخاً، باحثاً.. .. عندما يتعرض مجتمعه ووطنه للأزمات والكوارث والنكبات والحروب، يجب أن يكون في المقدمة، في الطليعة الأولى، في النّسق الأول للدفاع عن الوطن، بالكلمة المبدئية الهادفة، والصورة المعبّرة، بالمقال الذي يشحذ الهمم ويبعث الأمل، بعيداً عن المواقف الرمادية والهلاميّة. عليه أن يؤدي دوره بصدق وأمانة، يمتشق قلمه، يحمل ريشته وألوانه، يواكب التطورات المتسارعة وخاصة أننا نعيش عصر السرعة والصورة والفضاء الأزرق،كل لحظة شيء جديد وعليه أن يواكب هذه السرعة قولاً وعملا …
على المثقف أن يكون واقعياً، موضوعياً، صريحاً متصالحاً مع نفسه ومجتمعه، يتخلى عن نرجسيته، يتخلى عن (أناه) المتورمة، وينأى بعيداً عن الأبراج العاجية والطقوس الغليونيّة. عليه أن يكون أكثر التصاقاً بالناس لأنه الأقدر على تصوير واقعهم، يحمل همومهم وأمانيهم ، يعبّر عن معاناتهم بشفافية مطلقة… يعبّر عن نبضهم وصوتهم وبوصلتهم التي يرون فيها تشخيصاً دقيقاً للواقع وآثاره.فالمثقف لا يمكن أن يكون حيادياً، لا يتدخل في الشأن العام ولا يعنيه من قريب أو بعيد، عندها لا يمكن أن نطلق عليه صفة المثقف الحقيقي الذي يعيش للناس ومع الناس .
على المثقف الحقيقي صاحب الفكر النيّر والكلمة المسؤولة أن ينشر الأفكار الإيجابية بين الناس ويطوّق بعمله وعلمه وثقافته الأفكار السلبيّة الهدامة، بعيداً عن التهويل والتهليل والتضليل.
المثقف بحكم تمرسه بالحرف والكلمة الطيبة هو الأقدر علي صوغ الحلول، بعيداً عن العُقد المجتمعيّة والانفعالات الآنيّة، وتقديمها للناس لتشكّل رأياً عاماً في المجتمع وأمام أصحاب القرار.
عندما يتخلّى المثقف عن دوره الريادي التنويري، سنجد الكثير من مدّعي الثقافة في الواجهة وستزداد الأزمات تأزماً وتعقيداً.
وخاصة أننا نعيش عصر الصورة والفضاء المفتوح وبالتالي يمكن للحقيقة أن تغيب أو تُزوّر بطرق عديدة وفق أهداف وأجندات محددة.
عندما يتخلى المثقف عن دوره الريادي يتحوّل إلى مزور للتاريخ والأحداث، بانسياقه وراء أهداف لجهات تعمل على هدم المجتمع وتفكيك بنيته ، يتحول إلى بوق ينفث سمومه في كلّ الاتجاهات، وليتحول إلى أداة هدم وتخريب وتدمير، وفي مقدمتها تخريب العقول…
عندما يتخلّى المثقف في لحظة ما عن دوره التنويري الريادي، دوره التربوي والثقافي تجاه مجتمعه، فإنّه يعمل على تخريب وتزوير الذاكرة الجمعية للناس، بكل جمالها وبهائها، ألوانها الزاهية البديعة، تنوعها الغني. ماضيها وحاضرها ومستقبلها.
عندما يتخلى المثقف عن دوره التنويري، يصبح خارج سياق المنظومة الوطنية والأخلاقية للثقافة، يصبح أداة هدّامة غايتها تقويض بنيان الوطن والمجتمع وتشويه صورته الحقيقية، الصورة التي تحكي تاريخاً وحضارة وثقافة ومعرفة، وهذا الدور يزداد أهميّة اليوم مع دخول عصر النّت والشابكة العالمية والثورة الرقمية و… وبالتالي لا ثقافة بدون جذور متأصلة مبنيّة على القيم والمبادىء والأخلاق والمحبة والخير والتسامح، ولا مثقف بدون أدوات تواكب الواقع، ودور لا يتوقف عند زمن معين وبالتالي فإن رسالة المثقف التنويرية والمعرفية مستمرة مع استمرار الحياة.
العدد 1193 – 11 -6-2024