تحقيق – سهيلة علي اسماعيل:
ذات يوم تشريني، استفاق سكان مدينة حمص مذهولين من منظر ضباب كثيف يملأ جو المدينة، لكنه لم يكن ضباباً عادياً فهو جاف ولونه شديد البياض، وله رائحة غريبة وضارّة، ليكتشفوا أن ما يملأ الجو هو نتيجة تسرب أحد الغازات من مصفاة حمص الواقعة في الجهة الغربية من المدينة.
لا نعرف عدد الذين تدهورت حالتهم الصحية ممن يعانون من أمراض الربو أو الأمراض التنفسية.
في حادثة مماثلة، منذ سنتين، أصيب عدد من التلاميذ عند اصطفافهم في باحة المدرسة صباحاً في بلدة قطينة، القريبة جداً من معمل الأسمدة بحالات إغماء وسعال متواصل نتيجة تسرب غاز حمضي من أحد أقسام المعمل، وتم إسعافهم إلى المركز الصحي في البلدة.
هاتان الحادثتان هما غيض من فيض الآثار السلبية التي نتابعها في هذا التحقيق، والتي تعاني منها محافظة حمص (مدينة وريفاً) بسبب التلوث البيئي الناجم عن وجود مصفاة حمص غرب المدينة، ومعمل مزج الزيوت، ومعمل الأسمدة، والشركة العامة للسكر، ومعمل الوليد للغزل والنسيج، ومعمل الألبان، غيرها من المسببات الأخرى.
مصفاة حمص
مهندس، يعمل في مصفاة حمص، رفض ذكر اسمه، قال لصحيفة الثورة: إن المصفاة تُطلق الغبار والمواد الهيدروكربونية، بالإضافة إلى الغازات السامة، مثل أول أكسيد الكربون وحمض الكبريت.
كما أن المنصرفات الصلبة، كالفحم، ونواتج تنظيف الخزانات، والزيوت المستهلكة، والإسطوانات المستعملة الحاوية على مادة الكلور، تلعب دوراً كبيراً وأساسياً في تلويث التربة والمياه الجوفية، وتساهم مادة التنر المنطلقة من المضخات وصمامات وحدات الإنتاج في تلويث الهواء، عدا عن الروائح الكريهة المنتشرة من الأحواض المكشوفة المخصصة لفصل الزيت عن الماء.
وفق القانون، وبحسب مديرية البيئة بحمص، فإن الجهات البيئية تملك صلاحيات وضع معايير واشتراطات للمنشآت وإمكانية إيقاف أو تقييد تشغيل منشآت ملوِّثة متى ثبت تسببها بالضرر، وهي إجراءات تتم من خلال منح التراخيص للمنشآت ومتابعة شروط التشغيل، واشتراطات تقييم الأثر البيئي للمشروعات الإنتاجية، بالإضافة إلى أن المديرية، ومن خلال كوادرها الفنية المختصة تنفذ حملات توعوية وأنشطة ميدانية وحملات محلية (اليوم العالمي للبيئة – لقاءات علمية، وغيرها) بهدف التعريف بمخاطر التلوث وسبل الحد منها.
قياسات ونسب علمية
ورداً على سؤالنا عما إذا كان لدى المديرية قياسات لنسب التلوث الموجودة في المدينة قال مدير البيئة: هناك قياسات محلية متقطعة، وبيانات متاحة عبر مؤشرات جودة الهواء العالمية التي تقدر مستويات PM، والغازات مثل غاز ثاني أوكسيد النيتروجين، وتقارير لـAQI في حمص.
أما على المستوى الرسمي فلا يوجد.
وتوفر هذه القياسات مؤشرات آنية ومتوسطات سنوية، لكنها قد تكون محدودة من حيث التغطية الطويلة والموثوقة.
وهناك دراسات أكاديمية على مستوى القطر، وهي دراسات موسعة عن تأثير النقل والقطاع الطاقي على جودة الهواء في المدن السورية عموماً، لكن قواعد بيانات الرصد الطويلة الأمد الخاصة بمحافظة حمص محدودة ومتفرقة، وذلك بسبب ضعف الإمكانات قبل التحرير، ونأمل في المستقبل القريب – وضمن الخطة الاستراتيجية الوطنية التي يتم وضعها حاليا – تحسّن كل مجالات العمل البيئي في ظل اهتمام الوزارة بموضوع البيئة المهم جداً.
إطار قانوني
وفيما يخص عمل المديرية وخطتها لمواجهة التلوث في حمص، أو التخفيف منه على أقل تقدير، بين مدير البيئة طلال العلي أن المديرية تعمل وفق إطار قانوني إجرائي على المستوى الوطني، وهو تطبيق قانون حماية البيئة والأنظمة التنفيذية المحدِّدة لمهام الجهة البيئية، وحدود الملوثات، وصلاحية فرض قيود أو إيقاف المنشآت المسببة للتلوث.
وكذلك يلزم وجود تقييمات أثر بيئي لبعض المشاريع.
ويستخدم دليل إجراءات تقييم الأثر البيئي (EIA) كآلية لتشديد اشتراطات المشاريع الصناعية عند طلب الترخيص، ومتابعة تنفيذ تدابير التخفيف ومراقبتها.
ومن الناحية الميدانية، يتم تشغيل محطات الرصد المتنقلة والثابتة عن توفر الإمكانية، وإجراء جولات تفتيشية، وتحرير تقارير، وإصدار إنذارات، وتسجيل ضبوط بحق الجهات المخالفة، وتنظيم حملات توعية، وتبقى فعالية الإجراءات السابقة مرتبطة بالقدرات اللوجستية والتمويل.
صعوبات
ثمة صعوبات تعيق عمل مديرية البيئة عند محاولتها التخفيف من التلوث، لخَّصها المهندس طلال العلي، بنقص المعدات وشبكات الرصد المستمرة، فالمديرية تفتقر إلى محطات رصد ثابتة وكافية، وإلى مختبرات تحليل معتمدة، ما يجعل تقدير المؤشرات الطويلة الأمد أمراً صعباً، وكذلك نقص الموارد والقدرات الإدارية، أي وجود نقص في الموارد المالية والبشرية (كوادر فنية – إمكانات مالية لصيانة المحطات، وتمويل التحاليل المخبرية) ما يؤثر سلباً على استمرار عمل برامج الرصد والتفتيش، بالإضافة إلى ضعف القوانين والتنسيق المؤسسي، فرغم
وجود إطار قانوني
“قانون حماية البيئة رقم 12 لعام 2012 وإجراءات تقييم الأثر البيئي”، فإن التطبيق العملي يحتاج إلى التنسيق بين البلديات، والجهات الصناعية، وكافة الجهات ذات الصلة.
وفي بعض الحالات تكون العقوبات وتنفيذ القانون بحق المخالفين غير كافية. هذا عدا عن وجود مشكلات كثيرة في قطاع النقل والوقود، فلدينا أسطول سيارات قديم، وجودة وقود متدنية، وغياب للفحص الدوري الفعال لعوادم المركبات، ما يزيد من انبعاث الغازات السامة كمصدر رئيسي للتلوث.
ولفت إلى أن دراسات كثيرة، قامت بها جهات أكاديمية، لفتت إلى اعتبار وسائل النقل مصدراً أساسياً للتلوث في كافة المدن السورية.
وقد أصيبت البنية التحتية في حمص بأضرار كبيرة بسبب الأوضاع الأمنية والدمار في بعض المناطق ما أدى إلى عرقلة تنفيذ البرامج البيئية، والقدرة على صيانة المحطات ومتابعة المنشآت الصناعية.
المسؤولية مشتركة
وفي نهاية حديثه اعتبر مدير البيئة أن حماية البيئة مسؤولية مشتركة مرتبطة بعمل كل الجهات وجهود الأفراد، فالمديرية تعمل كل ما بوسعها من رصد متنقل، وتفتيش، وتنفيذ حملات، لكنها- وكما أسلفنا – تعاني الكثير، لذا فإن الحلول المستدامة تتطلب تمويلاً، وتحديث شبكات الرصد وتنفيذاً فعالاً لقوانين البيئة، وتحسين جودة الوقود والفحص الدوري للمركبات، وهذه الأعمال بحاجة لتعاون مشترك بين جميع الوزارات المعنية للوصول إلى حالة مثالية تنعكس على بيئة حمص وسكانها إيجاباً، وتخفف عنهم معاناة قديمة حديثة، وهي كابوس التلوث ومنعكساته السلبية.