دمشق تُعيد رسم خارطة النفوذ..  قراءة في زيارة الشرع إلى روسيا الاتحادية

الثورة – أحمد الأطرش:

لم يكن الزمن بعيداً حين كانت موسكو تُقرأ في الوعي السوري والعربي كخصمٍ استراتيجي، وكقوةٍ كبرى تقف على الضفة الأخرى من مصالحنا، تُدار حولها الحروب الباردة وتُبنى على أساسها التحالفات والخصومات، في تلك المرحلة، ارتبط اسم روسيا في الخيال الجمعي بالقطبية الصلبة، بالمعسكرات المتقابلة، وبالعداء الذي لا يلين، كانت السياسة آنذاك تُختزل في معادلة صفرية، إمّا معنا أو ضدنا، إمّا شرق أو غرب، إمّا عدو أو صديق.
غير أنّ عجلة التاريخ لا تعرف الجمود، فالعالم الذي كان يُقسم إلى معسكرين متناحرين، صار اليوم فضاءً مفتوحاً على التوازنات، وعلى براغماتية المصالح، وعلى لغة السياسة التي تتجاوز ثنائية العداء المطلق أو الولاء المطلق.
وهنا تبرز الزيارة الأولى للرئيس أحمد الشرع إلى روسيا الاتحادية كعلامة فارقة، لأنها ليست مجرد رحلة دبلوماسية عابرة، وإنما تجسّد انتقال سوريا من زمن الاصطفافات القسرية إلى زمن السياسة الواعية، من مرحلة العداء الموروث إلى مرحلة الشراكة المحسوبة، فبدلاً من أن تبقى أسيرة ذاكرة العداء، أعادت دمشق صياغة العلاقة مع موسكو على أساس السياسة لا الصراع، وعلى أساس المصالح لا الأيديولوجيا.
هذا التحوّل لم يكن معزولاً، بل جاء ضمن رؤية أوسع للدولة السورية الجديدة: الانفتاح على كل دول العالم، من الشرق إلى الغرب، من الشمال إلى الجنوب. فخلال عام واحد فقط من تولي الرئيس الشرع، سجّلت الدبلوماسية السورية نشاطاً غير مسبوق:
• أكثر من 18 زيارة رسمية إلى عواصم إقليمية ودولية.
• مؤتمرات ثنائية ومتعددة الأطراف في أنقرة، القاهرة، بروكسل، وغيرها.
• لقاءات مع أكثر من 40 رئيس دولة أو حكومة، في إطار إعادة إدماج سوريا في النظام الدولي.
• توقيع ما يزيد على 25 مذكرة تفاهم في مجالات الطاقة، التعليم، الثقافة، والإعلام.
هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل مؤشرات على أن سوريا الجديدة لم تعد محصورة في جغرافية ضيقة أو في محور واحد، بل صارت تتحرك بمرونة وذكاء، وتفتح أبوابها على العالم بأسره.
وهنا يظهر ذكاء الشرع، فهو لم يكتفِ بزيارة موسكو كخطوة رمزية، بل جعلها جزءاً من استراتيجية شاملة، حيث تتحول كل زيارة إلى لبنة في بناء صورة جديدة لسوريا: دولة قادرة على أن تتجاوز ذاكرة العداء، وتحوّل الخصوم السابقين إلى شركاء، وتثبت للعالم أن دمشق ليست مجرد عاصمة تبحث عن حماية، بل مركز قرار يسعى إلى شراكات متوازنة.

بهذا المعنى، لم تكن الزيارة الأولى إلى روسيا مجرد محطة بروتوكولية، بل شكّلت إعلاناً عن انطلاقة سياسة سورية جديدة، سياسة تُقاس بثمارها لا بشعاراتها، وتُبنى على التوازن لا على الاصطفاف، وتستند إلى الذاكرة من دون أن تُقيَّد بها، بل توظّف الحاضر كفرصة، والمستقبل كمشروع.

وإذا كانت الزيارة الأولى للرئيس أحمد الشرع إلى روسيا الاتحادية قد حملت في ظاهرها طابعاً بروتوكولياً، فإن عمقها يكشف عن أكثر من مجرد لقاء رسمي.

هنا تبرز الحاجة إلى قراءة استراتيجية شاملة، تُضيء على خلفياتها التاريخية، وتفكك رسائلها السياسية، وتستشرف دلالاتها على الداخل السوري، وعلى الإقليم، وعلى النظام الدولي بأسره.

السياق التاريخي والسياسي

حين نتأمل مسار العلاقة بين سوريا وروسيا في العقدين الأخيرين، لا يمكن إغفال الدور الذي لعبته موسكو خلال اندلاع الثورة في سوريا، فمنذ عام 2015، تدخلت روسيا عسكرياً بشكل مباشر، عبر غارات جوية وقواعد عسكرية، وهو تدخل ارتبط في الذاكرة السورية بمشاهد الدمار الواسع، وانهيار البنى التحتية، وسقوط آلاف الضحايا.
لقد كانت روسيا في تلك المرحلة طرفاً فاعلاً في تعميق المأساة السورية، إذ دعمت النظام السابق عسكرياً وسياسياً، ومنعت صدور قرارات دولية كانت قد تفتح مسارات مختلفة للحل.

هذا الإرث الثقيل جعل اسم روسيا في الوعي السوري مرتبطاً بالدمار أكثر من الإعمار، وبالحرب أكثر من السياسة.
ومع ذلك، فإن التحولات الدولية والإقليمية، ومعها ولادة الدولة السورية الجديدة، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، فتحت الباب أمام مقاربة مختلفة، مقاربة لا تنكر الماضي، لكنها تحاول أن تحوّل صفحة العداء والدمار إلى صفحة سياسة ومصالح متبادلة.

إن زيارة الرئيس الشرع إلى موسكو تأتي في هذا السياق، فهي ليست تجاهلاً لما حدث، بل محاولة لإعادة تعريف العلاقة على أسس جديدة، فالدولة السورية الجديدة تدرك أن روسيا كانت شريكاً في الحرب، لكنها تريد أن تختبر إن كان بالإمكان أن تكون شريكاً في السلام، وأن تتحول من قوة ساهمت في التدمير إلى قوة يمكن أن تساهم في إعادة البناء، شرط أن تُدار العلاقة بندّية، وبوعي تاريخي لا ينسى الماضي، لكنه لا يُسجن فيه.

أهداف الزيارة ومحاورها

• إعادة صياغة العلاقة الثنائية: الانتقال من علاقة قائمة على الحماية والولاء إلى علاقة قائمة على الندية والشراكة.
• التعاون الاقتصادي: فتح ملفات الطاقة، إعادة الإعمار، الزراعة، والبنى التحتية، مع ضمانات للشفافية والمصلحة الوطنية.
• التعاون الأمني والعسكري: إعادة تعريف الوجود الروسي في سوريا ضمن اتفاقيات واضحة، تحفظ السيادة وتؤسس لشراكة دفاعية مدروسة.
• القضايا الإقليمية والدولية: مناقشة موقع سوريا في التوازنات الشرق أوسطية، ودورها في الملفات الكبرى كالقضية الفلسطينية والحرب في أوكرانيا.

الأبعاد السياسية والدبلوماسية

• داخلياً: الزيارة عززت صورة القيادة الجديدة كقوة قادرة على إعادة سوريا إلى الساحة الدولية من موقع مستقل.
• خارجياً: موسكو أرادت أن تُظهر أنها لم تخسر سوريا بعد التغيير السياسي، بل أعادت تموضعها مع القيادة الجديدة.
• دبلوماسياً: الزيارة حملت رسالة إلى الغرب بأن دمشق ليست معزولة، وأنها قادرة على بناء تحالفات متوازنة ومتعددة الاتجاهات.

الرمزية والبعد الثقافي

• الخطاب الإعلامي المرافق للزيارة ركّز على فتح صفحة جديدة، وهو تعبير يعكس الانتقال من زمن العداء إلى زمن السياسة.

التفسير والدلالات

• رمزية التوقيت: الزيارة جاءت في مرحلة مبكرة من العهد الجديد، ما يعكس رغبة دمشق في تثبيت شرعيتها الدولية بسرعة.
• إعادة تعريف العلاقة: لم تعد العلاقة حماية مقابل ولاء، بل شراكة مقابل مصالح متبادلة.
• رسالة للداخل: أن القيادة الجديدة قادرة على كسب دعم قوة كبرى، ما يعزز الثقة الشعبية.
• رسالة للمنطقة: أن سوريا تدخل مرحلة جديدة من الانفتاح، بعيداً عن العزلة السابقة.

الرؤية الاستراتيجية

الزيارة لم تكن مجرد بروتوكول دبلوماسي، بل إعلان عن ولادة سياسة سورية جديدة:

• سياسة تُدار بالعقلانية لا بالعاطفة.
• سياسة تُبنى على التوازن لا على الاصطفاف.
• سياسة ترى في العدو السابق شريكاً محتملاً إذا تغيّرت الظروف.

الخلاصة

الزيارة الأولى للرئيس أحمد الشرع إلى روسيا الاتحادية، تمثل نقطة انعطاف في السياسة السورية:

• تثبيت الشرعية الدولية.
• إعادة صياغة التحالفات.
• فتح الباب أمام تعاون اقتصادي وسياسي متوازن.
• إيصال رسالة بأن دمشق قادرة على أن تكون لاعباً مستقلاً، لا تابعاً.

إن مثل هذه الزيارات تمثل بداية مسار طويل، تُقاس نتائجه بما يتحقق على الأرض: كهرباء تُضاء، بيوت تُبنى، مؤسسات تُستعاد، وسيادة تُصان.
إنها لحظة مفصلية تقول للعالم إن سوريا، رغم كل ما مرّ بها، ما زالت قادرة على النهوض، وعلى أن تكتب سياستها بيدها، لا بأقلام الآخرين.

آخر الأخبار
سوريا تشارك في الاجتماع العربي السابع للحد من الكوارث بخطة وطنية دمشق تُعيد رسم خارطة النفوذ..  قراءة في زيارة الشرع إلى روسيا الاتحادية وزير الطوارىء: نحن أبناء المخيّمات..نسعى لإعمار وطنٍ يُبنى بالعدل أوضاع المعتقلين وذوي الضحايا .. محور جولة هيئة العدالة الانتقالية بحلب بعد تحقيق لصحيفة الثورة.. محافظ حلب يحظر المفرقعات تخفيض الأرغفة في الربطة إلى 10 مع بقائها على وزنها وسعرها محافظة حلب تبحث تسهيل إجراءات مجموعات الحج والعمرة  جلسةٌ موسّعةٌ بين الرئيسين الشرع وبوتين لبحث تعزيز التعاون سوريا وروسيا.. شراكةٌ استراتيجيةٌ على أسس السيادة بتقنيات حديثة.. مستشفى الجامعة بحلب يطلق عمليات كيّ القلب الكهربائي بحضور وفد تركي.. جولة على واقع الاستثمار في "الشيخ نجار" بحلب أطباء الطوارئ والعناية المشددة في قلب المأزق الطارئ الصناعات البلاستيكية في حلب تحت ضغط منافسة المستوردة التجربة التركية تبتسم في "دمشق" 110.. رقم الأمل الجديد في منظومة الطوارئ الباحث مضر الأسعد:  نهج الدبلوماسية السورية التوازن في العلاقات 44.2 مليون متابع على مواقع التواصل .. حملة " السويداء منا وفينا" بين الإيجابي والسلبي ملامح العلاقة الجديدة بين سوريا وروسيا لقاء نوعي يجمع وزير الطوارئ وعدد من ذوي الإعاقة لتعزيز التواصل عنف المعلمين.. أثره النفسي على الطلاب وتجارب الأمهات