الثورة – حسين روماني:
أقامت المكتبة الوطنية في دمشق اليوم، ندوة حوارية بعنوان “التهجير والشتات السوري”، جمعت وزير الطوارئ والكوارث رائد الصالح مع الباحث والأكاديمي يمان زياد، وأدار الحوار لؤي عبد الهادي.
لم يكن اللقاء مجرد جلسة فكرية مع الحاضرين، بل كان مواجهة مفتوحة مع واحدة من أكثر القضايا حساسية في التاريخ السوري الحديث، كيف نحفظ الذاكرة، ونفهم أسباب التهجير، ونرسم طريق العودة لكل نازح سوري.
المخيمات ذاكرة حية
تحدّث الوزير رائد الصالح عن تجربة اللجوء والمخيمات من موقع المعايشة والعمل الميداني، وأكد أن المخيمات، رغم قسوتها، لم تكن فضاءات للنسيان، بل مدرسة للثورة وصناعة المعنى.
قال الصالح بصوتٍ تأثر بذاكرة الميدان: “أنا أرى المخيم من نافذة بيتي، لا يمكن أن يكون منسياً. المخيمات هي التي أنجبت القوة والأمل، وأنا استمددت طاقتي من قوة وصبر أهلها”.
من التوثيق إلى الذاكرة الجماعيّة
من جانبه، استهل الباحث يمان زياد حديثه بسؤال الذاكرة، ورأى أن فهم التهجير لا يكتمل إلا باستعادة السرديات التي حاول النظام المخلوع طمسها، بدءاً من مجازر الثمانينيات وصولًا إلى النزوح الجماعي بعد اندلاع الثورة عام 2011. وقال زياد: “حين نُوثّق التفاصيل الصغيرة، نحن لا نسرد الماضي فقط، بل نحمي الأجيال القادمة من إعادة إنتاج الاستبداد”.
بالنسبة له، التوثيق ليس أرشفةً لوجعٍ منتهٍ، بل عملية تربوية للأجيال الجديدة، وذكّر زياد أن جيل الثورة لم يكن يملك ذاكرة واقية تحميه من تكرار التجربة، قائلاً: “نحن امتلكنا إيماناً بالحرية، لكننا افتقرنا إلى ذاكرةٍ تحمينا مما فعله الأسد الأب والابن البائدين”.
خراب القوانين لا العمران فقط
انتقل النقاش إلى قضية السكن وإعادة الإعمار، حيث عرض الوزير الصالح صراحةً ما وصفه ـ”بالواقع الصادم” مئات الآلاف من السوريين بلا مساكن، وغالبية الناس عاجزة عن إعادة بناء ما تهدم، عدا عن مخلفات الحرب والألغام المزروعة بين شتلات الأرض وعلى جدران البيوت التي تحاول الحكومة، بمساعٍ جادة يوماً بعد يوم، طي صفحتها عبر استخدام التقنيات الحديثة في كشفها وتفكيكها، رغم تواضع عدد الفرق الفاعلة التي مازالت بحاجة إلى تدريب.
وقال: “النظام المخلوع لم يُدمّر فقط البيوت، بل دمّر الحواضن الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تسمح للناس بالعودة إليها”.
وأشار إلى أن جزءاً كبيراً من الأزمة يرتبط بالقوانين العقارية السائدة في البلاد، حيث إنها تنتظر الإصلاحات الجذرية من مجلس الشعب المقبل، وأكد أن هناك خططاً لتطوير المناطق العقارية وإطلاق مشاريع إسكان جديدة منخفضة التكلفة، شرط أن تُلغى تلك القوانين.
البيروقراطيّة بين الشفافيّة والشلل
من القضايا التي أثارها الحضور كان سؤالًا مباشرا للوزير الصالح حول البيروقراطية في مؤسسات الدولة، وهل لا تزال تعيق صنع القرار؟ فأجاب: “نعم، نحن بحاجة إلى بيروقراطية، لكن ليست بيروقراطية الأسد المخلوع، البيروقراطية الحقيقية هي التي تضمن الشفافية وتمنع الفساد، لا تلك التي تشلّ حركة الدولة وتُعطّل معاملات الناس”.
وكشف أن الحكومة تعمل حالياً على مراجعة القوانين التي تعيق تنفيذ الخطط التنموية، وعلى إنشاء دوائر شكاوى مستقلة تسمح للمواطن بتقديم اعتراضاته دون خوف، بما يضمن رقابة حقيقية على أداء المؤسسات العامة.
حين يصبح التهجير سردية مضادة
عاد يمان زياد في نهاية الندوة ليؤكد أن معركة السوريين ليست فقط ضد الخراب المادي، بل ضد تزوير الحكاية، فالنظام المخلوع، كما قال: “أعاد إنتاج سردية مقلوبة تُصوّر المهجّرين كخارجين عن القانون، وتحاول إلغاء معنى الثورة من الذاكرة العامة. وأضاف: “علينا أن نحتفظ بسرديتنا الأصلية، كل سوري خرج من بيته مكرهاً لا بد من أن يدوّن حكايته، من أجل التاريخ”.
طريق العودة والكرامة
انتهت الندوة بلحظة تأمل صامتة، ختم فيها الوزير الصالح بالقول: “نحن أبناء المخيمات، أبناء الحكاية السورية، كل ما فعلناه أننا حملنا كرامتنا معنا”.
في تلك الجملة اختُصر المعنى الأكبر، التهجير ليس فقط مأساةً، بل ذاكرة مقاومة تبحث عن العدالة والكرامة، وربما كانت تلك هي الرسالة الأعمق التي حاولت الندوة قولها، إن السوريين الذين حملوا وجعهم في المنافي والمخيمات لا يريدون البكاء على الأطلال، بل يسعون لبناء ذاكرةٍ تحميهم ووطنٍ يُعاد إعمارُه بالعدل قبل الحجر.