الثورة – هفاف ميهوب:
في سعيه لتشخيصِ واقعنا المعاصر وحال أفراده، يشير الفيلسوف الكوري «بيونغ شول هان»، إلى دور الرأسمالية والنيوليبرالية في تحويل هؤلاء الأفراد، من كائناتٍ عاقلة وفعّالة ومرئيّة، إلى أشباحٍ امتلكت صوتاً وباتت متحدّثة، ضمن عالمٍ غدت فيه الأجهزة الرقمية: «غداً الهاتف المحمول، الأجهزة اللوحية الذكية، الحاسوب، إضافة إلى الشاشات التي تحاصرنا أينما وجّهنا بصرنا، مكوّنات رئيسة في عالمنا، تجاوزت غايات اكتشافها، حتى تحوّلت إلى أصنامٍ صنعها الإنسان، ثم غدت معبودته».
يشير «هان» إلى ذلك، في كتابه «من داخل السرب ـ آفاق رقمية».. الكتاب الذي ينتقد فيه الثقافة الرقمية المعاصرة، في علاقتها بالرأسمالية والسوق النيوليبرالية، وانعكاس ارتباطهما على السكان الذين باتوا يفتقرون:
«يفتقرون إلى الرابط الداخلي، الذي من شأنه أن يُفضي إلى تشكيل «النحن».. إنهم يشكلون حشداً بلا تجمّع، زحاماً من دون ترابط داخلي، بلا روحٍ أو ضمير يجمع بينهم.. إنهم، قبل أيّ شيء، معزولون، مشتّتون، منكفئون على ذواتهم، يجلسون أمام الشاشة، ضاعفت الوسائط الرقمية عزلتهم».
يقتفي «هان» في هذا الكتاب، الذي اعتمد فيه على أطروحاتٍ فلسفية لـ»هيدغر» و»بارت» و»بنيامين» و»فوكو» وغيرهم.. يقتفي آثار الرقمنة في كلّ جوانب الحياة، ولا سيما الاجتماعية التي أدّى التواصل الرقمي فيها، إلى تدمير الهدوء والطمأنينة، وإثارة ضوضاءِ السرب الجماهيري الذي وجده: «السربِ الجماهيري الرقمي يفتقد الصوت في حديثه، وتالياً يُنظر إليه على أنه ضربٌ من الضوضاء».
ليس هذا فقط، ما تناوله «هان» من داخل السرب، بل تناول أيضاً، دور الوسائط الرقمية في تلاشي نظرائنا الواقعيين من عالمنا، مثلما في تدهور أشكال السلوك التي تتطلّب الرؤية عن بعد، حيث عزّزت هذه الوسائط الرؤية المحدودة، وغيّبت مجال استشراف المستقبل، وعطّلت القدرة على تكوين صورة مرآوية عن الآخر.
كلّ ذلك جعله يرى، بأن العصر الرقمي قد اضطرّ الإنسان للتعامل مع العالم بالأرقام والحساب، إذ إنه عصرٌ قائمٌ على العمليات الحسابية، حتى في مجال اللغة والمشاعر والانتماء والوفاء، وهو أمرٌ انعكس على مسار عملية التفكير والإبداع، وأدّى بعد أن أحال الحرية في العالم الرقمي إلى عبودية: «لقد أدى العصر الرقمي ـ الحسابي، إلى تدمير السمات الشخصية التي تميز كل فردٍ عن الآخر، وإلى تقليص فرادة العالم الإنساني، وقدرته على التميز والحوار والإبداع.. أدّى أيضاً، إلى جعل المشاعر الإنسانية، عبارة عن إشارات رقمية وأيقونات تعبيرية، مفرّغة من عمقها، وفاقدة القدرة على الفعل والتأثير والفهم»».
باختصار: الكتاب عبارة عن رسائل فلسفية، تطالب الإنسانية التي باتت تعاني من «حصار الرقمنة» بأن تسعى وبالدرجة الأولى، إلى حماية نفسها من نفسها.. من الإنهاك المعلوماتي الذي أرّقها، وقضى حتى على مشاعرها وراحتها وتفكيرها ولحظات تأمّلها..