يسرق الأفكار، ويسرق الوظائف، والفرص، ومؤخراً بات يسرق ملامح الوجوه.. إمكاناته هائلة، وسرعته خارقة، وذاكرته تكاد تصبح بلا حدود، ووتيرة تطوره لا تهدأ.. وها قد أصبح موضوعاً مثيراً للجدل، وسؤالاً مشروعاً عما إذا سيكون مستقبله مهدداً لمستقبلنا كبشر.
نجم جديد برز على الساحة منذ عقود قريبة، إلا أنه لص تفوق على اللصوص جميعها في براعته، يسرق منا كل ما يميزنا فوق هذا الكوكب من عقل وعمل، كائن رقمي له قدرات فائقة، وذكاء متنامٍ، وباتت له آثار عميقة في حياتنا اليومية.. أنتجه ذكاء الإنسان فإذا به ينافسه ليأتي يوم قد يتمرد فيه عليه.. إنه “الذكاء الصناعي” الذي أصبح عقلاً يستطيع أن يكتب النصوص، وريشة تستطيع أن تخط الخطوط والألوان، ويداً بارعة في دقتها تستطيع أن تقوم بأصعب العمليات الجراحية على الجسد البشري، وآلة فائقة قادرة على النهوض بصناعاتنا من أدقها إلى أعظمها، وموظفاً مثالياً يتفوق في مهارة أدائه على أفضل الموظفين، وقائد طيارة، وسائق سيارة، إلى آخر قائمة مهامه التي لا تنتهي.
فمع ازدياد قدراته التحليلية الهائلة بات قادراً على أداء العديد من المهام التي ما زال الإنسان يقوم بها حالياً، فإذا به يسرق منا فرصنا، ووظائفنا خاصة الروتينية منها والتي لا تتطلب إبداعاً، أو تفكيراً نقدياً، وبرامجه المتطورة باتت تساعده لأن يقوم بأعمال لا يقوم بها إلا البشر من الكتابة الإبداعية إلى التشخيص الطبي الدقيق.
وبينما يزداد هذا الذكاء الصناعي تطوراً، وانتشاراً، يزداد القلق، والخوف منه.. فالكثير من المهن التي كانت تعتبر آمنة، وراسخة باتت معرضة للزوال أمام هذا اللص الرقمي الماهر، وبرامجه الذكية الماكرة تستطيع أن تقوم بأعمال المحاسبة، والإدارة، والتصميم بجودة وكفاءة أعلى من البشر.
ولا يقف الأمر عند حدود سرقة الوظائف، بل إن هذا اللص بات يسرق منا الأفكار الإبداعية، والابتكارات التي كانت تعتبر حكراً على عقولنا، فالبرامج القائمة على التعلم الآلي تستطيع أن تنتج محتوى إبداعياً، وأفكاراً مبتكرة بطرق لا يمكن للبشر منافستها.
لا شك أن الذكاء الصناعي يمثل تحدياً كبيراً للإنسانية، وسيطرته هذه على العديد من مهامنا قد تؤدي إلى زيادة الفجوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء، فيصبح الأغنياء هم مَنْ يتحكمون في هذه التكنولوجيا، بينما يصبح الفقراء هم مَنْ يعانون من عواقبها، كما إنه قد يستخدم للتحكم في سلوك البشر والتأثير على آرائهم وقراراتهم، مما قد يهدد حرية الإنسان، وخصوصيته.
إزاء هذا التحول الكبير في موازين القوى، علينا أن نتساءل: هل سيكون للبشر مكان في عالم الغد؟ وكيف يمكننا التعايش مع هذا اللص الرقمي الماكر دون أن نفقد هوياتنا، وإنسانيتنا؟ ليكون التحدي هو: كيف نستطيع أن نستفيد من قدراته دون أن نُسلِّم له مفاتيح مستقبلنا.
والجواب بالتالي هو في أن نركز على تنمية قدراتنا الإبداعية، والتحليلية البشرية، والتعامل مع التكنولوجيا بذكاء، وحكمة لنكون شركاء للآلة لا عبيداً لها. فالاستثمار في التعليم والتدريب لتنمية مهارات الإنسان التي لا يمكن استبدالها بالذكاء الصناعي مثل الإبداع، والتفكير النقدي، والذكاء العاطفي سيكونا مفتاح تحقيق هذا التوازن. كما أن علينا وضع قوانين، وأخلاقياتٍ تنظم استخدامه، وتحمي الإنسان من مخاطره.
وبالمقابل هناك مجالات وقطاعات معينة ما زال الذكاء الصناعي يواجه تحديات كبيرة في السيطرة عليها بشكل كامل. فعلى الرغم من التقدم الهائل في قدراته إلا أن هناك جوانب إبداعية، وإنسانية لا يمكن للآلة أن تحاكيها بشكل كامل. ومن أبرزها مجالات الإبداع الفني، والثقافي سواء في الموسيقا، أو الأدب، أو الفنون التشكيلية، التي لاتزال محكومة إلى حد كبير بالعاطفة، والخبرة الإنسانية، فالذكاء الصناعي قد ينتج محتوى إبداعياً، لكنه لايزال يفتقر إلى الحس الإنساني، والتجربة العميقة التي تميز الإبداع البشري.
كذلك هو حال العمل الاجتماعي، والإنساني، فمجالات الرعاية الصحية، والتعليم، والخدمات الاجتماعية تتطلب تفاعلاً إنسانياً مباشراً لا يمكن للذكاء الصناعي تقليده بالكامل، أما التعاطف، والتواصل البشري فهما من أهم مكونات هذه المهن، وهي جوانب لا يستطيع بالتالي التفوق فيها.
أما القرارات الحاسمة في المجالات الحساسة التي تتطلب اتخاذ قرارات مصيرية، كالقضاء، والطب، والسياسة، فما زال الحكم للبشري، وللتقدير الإنساني الذي لا يمكن استبداله نظراً لجوانب أخلاقية، وقيمية لا تزال هي الأخرى حكراً على الإنسان. كذلك شأن الإبداع العلمي، والبحث فعلى الرغم من قدرة الذكاء الصناعي على إجراء بحوث، وتحليلات معقدة، إلا أن الابتكار العلمي الحقيقي، وصياغة الفرضيات الجديدة ما زالت تعتمد بشكل كبير على التفكير الإبداعي، والتأمل العميق للباحثين من البشر.
إن هذه المجالات وغيرها تشكل نقاط قوة لايزال الإنسان حتى الآن يتفوق فيها في مواجهة هذا اللص الأكبر الذي لا يمل يلهث وراءنا ليسرقنا.. أجل.. إننا مدعوون أكثر من أي وقت مضى لأن نكون أصحاب الأفكار، والابتكارات، لا مجرد عمال في مصانع الذكاء الصناعي.
* * *