الثورة – حسين روماني:
حين جلس غزوان الزركلي أمام البيانو على خشبة دار الأوبرا بدمشق ليل الثلاثاء 1 تموز، لم يكن يستعد لحفل موسيقي اعتيادي، بل كانت أنامله على وشك أن تروي ما عجزت الكلمات عن قوله، وتُحيي ذكرى من رحلوا بصوتٍ بلا كلام، في تلك الليلة، عزف من أجلهم، أهدى حفل “البيانو سولو” إلى شهداء الثورة السوريّة، كأن الموسيقا وحدها تعرف الطريق إليهم.
بين رخمانيوف وتشايكوفسكي وليست، مزج الزركلي الحزن بالجمال، الغياب بالحضور، الماضي بما تبقّى من حلم، وفي حديثه، كان أبسط من نغمة، وأعمق من مقطوعة، تحدث عن أهمية أن يتعلّم الطفل الموسيقا لا ليصبح عازفاً، بل ليصبح إنساناً، وذهب نحو الثقافة في الغربة كخشبة خلاص، كيف تُبقي الفنان مشدوداً إلى جذوره، حتى وهو في أقاصي المنفى، ورأى في الموسيقا أكثر من فن، رآها أداة تغيير، قوة ناعمة تنحت الإنسان من الداخل، وتصقل المجتمع بصمتٍ يشبه ضوء الفجر.
في السطور التالية، يأخذنا غزوان الزركلي في حواره مع “الثورة” عن الموسيقا، والطفل، وكيف يمكن لموسيقا واحدة أن تكون عزاءً ومقاومة في آن واحد.
اليوم هو أول حفل لكم على خشبة دار الأوبرا بعد التحرير، ماذا تعني لك هذه اللحظة؟ هذا اليوم من أسعد أيام حياتي، وأنا لم أفارق خشبة المسرح منذ 1962، أولى حفلاتي كانت في ربيع عام 1963، وكان وزير الثقافة آنذاك الدكتور سامي الجندي، كانت لحظة فارقة في مسيرتي، وها أنا اليوم أعيش لحظة لا تقلّ عنها قيمة، أن أكون أول من يعيد الانطلاقة على خشبة دار الأوبرا في دمشق بعد التحرير، هو شرف وسعادة غامرة لا توصف.
_اخترت لهذه الأمسيّة المهداة إلى شهداء الثورة ثلاث مقطوعات عالمية، ما الذي يميزها لهذه المناسبة؟
أسعى إلى تقديم برنامج يجمع أعمالاً طويلة، تحتاج من المستمع إلى الانتباه ومحاولة السبر حتى تصل إلى وجدانه وتصبح تجربة فنية حقيقية، مع أعمال قصيرة تدخل القلب مباشرة دون استئذان، فالقسم الأول بعملين للمؤلف الهنغاري الألماني “فرانتس ليست”، أحدهما رومانسي قصير والثاني درامي طويل على شكل “سوناتا” بحركة واحدة ممتدة، وهذا المؤلف يحتل مكاناً مرموقاً في الأدب الموسيقي ويشكل ذروة فيما يخص موسيقا البيانو، أما القسم الثاني فيبدأ بثلاث لوحات من تأليف الروسي “بيوتر تشايكوفسكي” وهي مأخوذة من مجموعة بعنوان “الفصول” معنونة بأسماء الأشهر، إذ اخترت منها السابع والثامن والتاسع، الحصاد والصيف والخريف، و في الختام سوناتا ملحمية ألفها الروسي “سيرغيه رخمانيوف” في وقت كانت فيه روسيا تعيش مخاضاً ثورياً متأججاً، وما يربط بهم جميعاً إظهار معاناة الإنسان، تلك المشتركة بين جميع البشر، ونجدها في هواجس الفرد حينما يتوق للخلاص نحو الأفضل والأجمل.
– نعود معك في الزمن قليلاً إلى الوراء ونسأل، كيف أُثرت دراستك في برلين وموسكو على نظرتك للموسيقا؟ تعلّمت الاحتراف وعززت الانتماء، في الأولى أتقنت الصنعة، وفي الثانية تعمّقت في المعنى، جمعت بين التقنية الصارمة والروح المتجذّرة، فصار لعزفي هوية، وللموسيقا التي أقدّمها جذورٌ تمتد من الذاكرة السورية إلى خشبات العالم.
كيف أثّرت الغربة في مسارك الثقافي؟ وهل استطعت أن تطوّعها لتكون حافزاً ودافعاً للفاعلية والإنتاج الثقافي بدل أن تكون عائقاً؟
الغربة بالنسبة لي لم تكن هروباً بل حماية، استخدمتها كمساحة هادئة للتركيز، للكتابة، للترجمة، وللتمرّن على ما سأقدمه، كنت أعود إلى دمشق ثلاث مرات في السنة، ولم أنقطع يوماً، وفي زمن الظلمة حين كانت الثقافة تُحاصَر، جعلت من المنفى مختبراً للإبداع، الغربة لم تبعدني، بل منحتني وسيلة للبقاء فاعلاً، ومخزوناً أعود به إلى وطني، كتبت العديد من الكتب وترجمت إلى الألمانية مسرحيّة عن سجن صيدنايا، كان ذلك قبل التحرير.
– كيف ترى ارتباط الموسيقا بالقيم الإنسانية والوطن؟ الفن ليس ترفاً، بل تراكمٌ يصقل الإنسان، يُهذّب سلوكه، يُنمّي فكره، ويجعله أكثر إحساساً بقيمة الحياة وجمالها، التربية الفنية ترفع من نوعية العيش وكفاءة الإنسان في فهم ذاته ومحيطه، لكن لا يمكن الحديث عن ثقافة دون حد أدنى من العدالة الاقتصادية، فالجائع لا يسمع الموسيقا، لذلك لا بد أن تسير الثقافة والاقتصاد معاً في مرحلة انتقالية حقيقية، تفتح أفقاً جديداً، ونحن بحاجة إلى رؤية ثقافية واضحة، تردّ الاعتبار للقيم الإنسانية التي انهارت، وللحس الفني الذي تآكل بفعل الفظاظة والأنانية وانعدام الانتماء، آن أوان التصحيح.
– متى تكون الموسيقا أداة لتغيير المجتمع؟
حين تبني إنساناً أفضل، فأنت تغيّر سلوكه، وتفتح أفق تفكيره، وترسّخ انتماءه، وتدفعه نحو الاحتراف، لكن هذا التغيير ليس لحظة، بل مسارٌ تراكمي طويل، لا يحدث بين ليلة وضحاها، وخاصة في المجال النفسي والمعنوي، وكل تفصيلة تحتاج إلى وقت ورؤية، فالعقل البشري معقّد، والتوجه إلى الإنسان يتطلب فهماً لاختلافاته، المراهق مثلاً حالة حسّاسة وصعبة، والأثر فيه يكون عميقاً، وهنا يأتي دور الموسيقا، خاصة حين تمتزج بالكلمة، فالكلمة المغنّاة، ما يسمعه الطفل، ما يحفظه، هو ما يزرع داخله الوعي والانتماء، موسيقانا غالباً مجرّدة، لكن عندما تدخلها الكلمة، تُصبح قادرة على التغيير الحقيقي، الأغنية التي تُرددها الأجيال هي التي تصنع الذاكرة، وتُعيد تشكيل الإنسان.
ـ من وجهة نظرك، ما هي أبرز التحديات التي تواجهها مناهج تعليم الموسيقا بسوريا؟
مناهج تعليم الموسيقا في سوريا متدهورة جداً، لا يكفي أن نعلّم النوتة بل علينا أن نعيد النظر في التعليم الأساسي نفسه ما الذي يتلقّاه الطفل بخصوص الموسيقا وما الأثر الذي نريده أن يرافقه مدى الحياة، نحن بحاجة إلى مدارس تحضيريّة موسيقيّة للأطفال من عمر السادسة حتى التاسعة، تُرسّخ فيهم مخزوناً سمعياً وثقافياً، سواء أكملوا الطريق المهنيّ أم لا، فكل طفل من حقّه أن يتعلّم الموسيقا، وأن يُمنح ثقافة تلازمه وتغذّيه على امتداد عمره.
أما على مستوى المعاهد الموسيقيّة، سواء المعهد العالي أم المعاهد التابعة لوزارة الثقافة، فالوضع لا يقل سوءاً، والمناهج بحاجة إلى مراجعة جذرية، لكن التغيير لا يبدأ بالقرارات، بل بالفكرة، فلا بد من وجود نيّة حقيقية، ورؤية بعيدة المدى، تسبق التنفيذ وتمنحه المعنى.