الثورة _ هفاف ميهوب:
«القرنُ العشرون الذي وُلدَ معلناً السلام والعدالة، مات مستحمّاً بالدمّ، وخلفَ عالماً أشدّ جوراً من العالم الذي وجده عند مجيئه. القرنُ الحادي والعشرون الذي وُلدَ أيضاً، معلناً السلام والعدالة، يقتفي أثرَ القرن السابق».من يقرأ هذه الكلمات، وغيرها مما ورد في نصوصِ كتاب «مرايا ـ ما يشبهُ تاريخاً للعالم»، يشعر بأن الأديب الأوروغواياني «إدوارد غاليانو»، أراد من نصوصه القصيرة والساخرة والمكثّفة هذه، أن يجعل العالم يرى وجهه الحقيقي منعكساً في مرآة، تُظهر المغيّب من الأحداث والشخصيات، التي تمّ نسيانها أو تجاهلها، أو حتى إزالتها من ذاكرة الحياة، رغم أنها لعبت دوراً مهماً في تاريخ الحضارة البشرية.بيد أنه تقصّد ذلك، من أجل إعادتنا إلى هذا التاريخ، وجعلنا نتوقف لدى القصص والموضوعات التي جرت في العالم، وكان هدفه من استدعائها، والتركيز على مدنها وأحداثها وشخصياتها، أن يقول لنا، انظروا إلى الماضي وارتباطه بالحاضر، وتشابه أو تطابق أسباب الصراعات والتطلعات والاعتداءات، وأيضاً النتائج، في قضايا العالم الأساسية.. مثلاً: هو أراد لكلّ العالم أن يتأمّل، كيف قامت حضارة أوروبا، على أرضِ وجماجم وأشلاءِ ودماء الهنود الحمر، الذين هم أصحاب الأرض الحقيقية.. أراده أن يتأمّل أيضاً، ما اقترفته هذه الحضارة المهووسة بالهيمنة والنفاق، بحقّ الدول والشعوب التي تقاومها ولا تخضع لها، وهو ما حصل في العراق.»عندما لم يكن العراق قد صار العراق بعد، وُلدت هناك أوّل الكلمات المكتوبة.. رسمتها أيدٍ بارعة، بقصباتٍ مدبّبة، على الطين.. بفضلِ النّار، ما زالت ألواح الطين تروي لنا، ما رُوي منذ آلاف السنين، في تلك الأراضي التي بين نهرين. في أزمنتنا، أطلق جورج دبليو بوش، بصفاقةٍ سعيدة، وربما لقناعته بأن الكتابة اختُرعت في تكساس، حرب إبادة ضد العراق، فكان هناك آلاف وآلاف الضحايا، ولم يكونوا أناسٌ من لحمٍ وعظمٍ فقط، بل جرى اغتيال الكثير من الذاكرة أيضاً.. ألواح الطين، سُرقت أو دُمّرت في أعمال القصف، وكان أحد تلك الألواح يقول: نحنُ غبارٌ وعدم. كلّ ما تفعله ليس سوى قبضُ ريح». ينوّه «غاليانو» إلى هذه الصفاقة التي فضحتها مراياه الكاشفة، مثلما إلى غيرها مما جلبَ المآسي والويلات والحروب والمجازر والإبادات الجماعية، وعلى جميع الدول والشعوب، التي مزّقتها المؤامرات والديكتاتوريات والعنجهية الأميركية. باختصار: ما أراده «غاليانو» من كتابه هذا، جعل شعوب الأرض بكلّ جهاتها، ترى حقيقتها في مراياه دقيقة الانعكاس، بدءًا من الإنسان القديم وصراعه مع وحوش الأرض، مروراً بإنسان الحضارة والتقدّم الذي رافقته الاقتتالات والانقلابات والحروب والمعارك البشرية الدامية، وصولاً إلى إنسان الحداثة والعولمة التي فرضت هيمنتها، وباتت تشكّل أكبر الخطر لطالما، كان أبشع ما رافقها، القضاء على دور الإنسان، والعمل على استلابه ومحو ذاكرته، وإفقاده قيمه وأخلاقه وإنسانيّته.