الثورة – رفاه الدروبي:
عبَّر الشاعر العراقي فائز حداد عن مكنوناته النفسية في حبٍّ ماضٍ عبر الزمن، ومازال القلب ينبض وتشتعل لواعجه ألماً، فيقف الشاعر على أطلال الذاكرة ليُسطِّر أعذب الكلمات في مجموعته الشعرية الأخيرة
عنوانها: “وداعاً ياقمر الأناضول” وقَّعها في فرع دمشق لاتحاد الكتَّاب العرب بحضور رئيس الفرع الدكتور إبراهيم زعرور.
الشعراء سدنة اللغة
قدَّم الدكتور غسان غنيم دراسة نقدية مشيراً إلى أنَّ الشعراء السدنة الحقيقيون لتجديد شباب اللغة لأنَّهم القادرون على إلباس الكلمات أثواباً قشيبة، فلغة الشعر تتأبّى على القيود، وتتجاسر على سلطان القوانين، وتحاول أن تتجاوز كل ثابت لمصلحة الإبداع والتجديد، مُتمرِّدةً على المنطق النثري، وعلى الحدِّ التواصلي للغة لتؤسِّس كيانها المختلف النافر من السنن المُنهكة من طول الاستعمال.
إنَّه شاعر قصيدة النثر.. استطاع أن يجعل منها حالة أدبيَّة مُتميِّزة عبر العديد من المجموعات والتجارب وضعته في مصاف شعراء قصيدة النثر الكبار. إنَّه الشاعر فايز الحداد مَنْ استطاع أن يعطي مع شعراء قصيدة النثر مشروعية لها عبر منحها أبعاداً أدبية وشعرية؛ بعد أن تخلَّت عن حوامل القصيدة من وزن وإيقاع وقافية، وعبر لغةٍ تتجاوز التخاطب كما تعارف الناس عليها وتتجافى مع لغة النثر العادية لصالح لغة. تشعُّ بالجدّة والطزاجة عبر تجديد علاقاتها لتثير المتعة وتفجِّر في متلقيها الإدهاش والروعة.
حكاية حبٍّ درامية
الدكتور غنيم أشار إلى أنَّ مجموعة “وداعاً يا قمر الأناضول” فيها حكاية حبٍّ درامية يتوزّعها الحبّ والخوف من البعد والخيانة والتمسُّك بالمحبوبة رغم كونها متقلِّبة تجفو حيناً؛ وتقترب حيناً آخر. حبٌّ أتى مكتهل سيف العمر لقمر تردَّد أن يعطي الحب وكأنَّه يمشي نحوه بخطوة إلى الأمام وبخطوات إلى الوراء. يريده ويرغبه لكنَّه غير مستعد أن يواصل الشوط إلى آخره فيزرع القلق والعذاب في قلب مُحبِّه. أبدى استعداده لأن يجعل من محبوبته ملكة على قلبه شريطة أن تكون له وحده، أو يجعلها حمامة أو جوهرة فأنشد:
فتدفَّئِي على طعمِ استوائي يا قميرتي!
وتلذَّذِي بماءِ مروجِ شفتي
ولفت إلى أنَّ مجموع الصور والانزياحات تعود إلى الإيحاء بحالة حب غير متحِّقق، يتوق إلى الوجود فيتداخل عالما الشاعر: الداخلي والخارجي، عبر حالة من التشوّش ليخلق شكلاً يحاول أن يجعله يتوازى مع عالم يمور بأحاسيس وحالات وجدانية يستعصي التعبير عنها بشكل تلقائي بسيط، مُنوِّهاً إلى أنَّها مجموعة تحتاج إلى عمل كبير وأكثر تفصيلاً لغناها ووسامتها تجعل اللغة لاعباً أساسياً، فالشعر يُبنى بالكلمات ولكن استعمالها لا بدَّ أن يكون مختلفاً لينال النص شعرية تجعل منه نصاً لا يقف عند حدود المهمة التواصلية، بل يتعداه إلى حالة فنية رائعة ومثيرة.
حالة حبّّ حقيقية
الشاعر فائز حداد أوضح بأنَّه طبع ديوانه في سورية لأنها مسألة اعتبارية، ولأهميتها الثقافية بوجود دور نشر متطورة أكثر من العراق، وعلاقته متينة مع دار العراب للدراسات والنشر والترجمة تمتد إلى عقد ونصف، إذ طبع فيها أكثر من أربع مجموعات شعرية، ويستعيد في مجموعته الأخيرة “وداعاً يا قمر الأناضول” ذكرى فتاة أحبَّها ولم يسعفه الحظ للاقتران بها.
أمَّا النقد فيُنشئ نصاً مخالفاً إلى جانب ما كتبه المبدع، فالنقَّاد في وطننا العربي جلّهم أو أكثرهم يكتبون نظم نصوصهم خارج آلية النص؛ ومن لا يفهم الآلية لا يستطيع الكتابة، مبيِّناً أنَّه استمتع بالنقد الحصيف للدكتور غنيم المعروف بحرفيته وتقنيته المبدعة في التعمُّق بالنصوص، فكان بارعاً في فهمها وكتابتها لأنها تعبِّر عن حالة حبٍّ عاشها في العشرينات من عمره، وعانى من حالة واقعية رافقته طيلة حياته وانعكست على شعره لحبٍّ انتهى ولم يعد، والمخيلة لا تُسمِّي الأشياء برمزيتها بالصورة السريالية والمقنعة، والشعر يُمثِّل الحالة المُعبِّرة عن الأحاسيس، ويكون الإبداع في التجربة الحقيقية أكثر تعبيراً واتساعاً، وتصل الشعرية إلى أعلى مستوياتها.