الملحق الثقافي- عبد الحميد غانم:
كثيراً ما يختلط الأمر بين العامية والفصحى، وهل العامية لغة أم هي تحريف للغة الفصحى؟، وقد اعتبرها النحات والمشتغلون في اللغة بأنها ازدواجية لغوية.
تعد الازدواجية اللغوية من معضلات اللغة، وباتت هذه الظاهرة في الفترة الأخيرة تهدد اللغة العربية لأنها فقدت التوازن بين اللغة الفصحى واللغة العامية، وهذا بدوره لم يستهدف اللغة العربية فحسب بل استهدف الوجود العربي لأن اللغة العربية هي أساس وجود العرب وتمثل الانتماء والهوية العربية.
وقد تصدت لهذه المشكلة وأسبابها الأستاذة الجامعية الدكتورة ريما الدياب من خلال محاضرتها التي قدمتها في المؤتمر العلمي الذي أقامته جامعة دمشق بالتعاون مع اتحاد الكتاب العرب على أرض الجولان في كلية التربية الرابعة في مدينة القنيطرة خلال الجلسة الثانية من المؤتمر بعنوان اللغة العربية والفكر، وحاولت تقديم الحلول التي تحد من انتشار هذه الظاهرة اللغوية للحفاظ على لغتنا العربية الفصحى التي وقفت بوجه التحديات منذ أمد بعيد، وما زالت إلى اليوم تثبت أنها لغة متينة من الصعب النيل منها.
إنّ اللغة العربية هي لغة الدين والتراث والحضارة والثقافة كانت ومازالت إلى يومنا هذا ثابتة في وجه التحديات كلّها، إلا أنّها اليوم تعاني من أزمات وتحديات عدة تستهدفها وتقف في وجه جعلها لغة الدول والمعرفة والعلم في المجالات كلّها وعلى المستويات جميعها.
ظاهرة تهدد مجتمعنا
وقد شكلت الازدواجية اللغوية حالة من الانكسار الحضاري الذي فرض ثقله على الأمة العربية؛ لأنها لامست اللغة العربية، والتي تشكل أهم مقومات العربية كالانتماء والهوية العربية، فأصبحت ظاهرة الازدواجية اللغوية أكبر التحديات لحداثة الأمة ونهضتها، ولا شك أن الازدواجية اللغوية – كما تشير الدكتورة ريما الدياب – « ليست وليدة العصر بل هي ترافقت مع اللغة العربية منذ أقدم العصور، فقد وجدت اللغة بشقيها العامية والفصحى منذ القديم، وشهدت أطواراً عدة وظهرت بصيغ متعددة واختلفت باختلاف العصور، ولكن الأمر الذي كان يدعو إلى الطمأنينة أن اللغة العامية محصورة في بيئات منعزلة، ولم تكن ترقى لتكون لغة الأدب أو الثقافة أو الدواوين الرسمية، فإن وقفنا عند العصر الجاهلي نجد أنّ اللغة العربية الفصحى كانت لغة الناس العامة ولغة الأدب والثقافة ولا شك أن الناس كانوا يلفظون العربية الفصحى على السليقة لأن اللغة العربية لم يدخلها اللحن والخطأ، وفي العصر العباسي نجد أنّ اللغة العربية الفصحى كانت دليلاً على التقدم الحضاري للأمة العربية، فعلى الرغم من تعدد اللغات إلا أن العربية الفصحى فرضت وجودها على باقي اللغات وحافظت على ثباتها، ولم تندثر مهما حاولوا تغليب اللغات الأخرى أو اللهجات العامية عليها، ولم تشكل اللغة العامية خطرًا على اللغة الفصحى في تلك الأيام، إلى أن وصلنا إلى العصر الحديث الآني الذي ظهرت فيه الازدواجية اللغوية بشكل مرضي تشكل خطرًا على اللغة العربية الفصحى وذلك لاختلال العلاقة بين اللغة الفصحى واللغة العامية، وفي الحقيقة ظهرت الازدواجية اللغوية في اللغات كلّها، وبدت بحالة طبيعية في لغات العالم، إلا أنّ هذه الظاهرة باتت تهدد مجتمعاتنا العربية على كافة الأصعدة، الاجتماعية والأخلاقية والسياسية، إذ إنّها فقدت التوازن المبني على القوة.
تعدّ الازدواجية اللغوية من معضلات اللغة العربية، إذ يجتمع فيها المستوى الأول من اللغة وهو الفصيح والمستوى الثاني العامي، وتتماشى العامية مع الفصحى، وقد تهدد الازدواجية اللغوية اللغة العربية الفصحى، لفقدان التوازن بين العامية والفصحى وتغليب العامية عليها.
وبحسب البحث الذي قدمته الدكتورة الدياب، عرّفت الازدواجية اللغوية: لغة عند ابن منظور: الزوج خلاف الفرد، يقال زوج أو فرد، وكان الحسن يقول في قوله عزّ وجل : «ومن كلّ شيء خلقنا زوجين»؛ قال : السماء زوج ، والنهار زوج ، ويجمع الزّوج أزواجًا وأزاويج، وفي المعجم الوسيط : زواج الأشياء تزويجاً: وزواجاً: قرن بعضها ببعض، وزوّج فلاناً بامرأة: جعله يتزوّجها، « ازدواجًا» اقترنا، والقوم تزوج بعضهم من بعض والكلام أشبه بعضه بعضًا في السجع والوزن والشيء صار اثنين «تزاوجا» وازدوجا والقوم ازدوجوا.
اصطلاحاً: الازدواجية اللغوية هي الاستخدام المزدوج للعامية والفصحى، العامية في الحياة اليومية والفصحى في الحياة الرسمية، أي مستويان لغويان للسان الواحد، عامي وفصيح، وتختلف اللغة بين العامية والفصحى في الجوانب الصوتية والمعجمية والدلالية، وتشكل حالة لغوية تشير إلى الانقسام ما بين اللغة العليا أو الرسمية المستخدمة في التعليم واللغة المحكية في الحياة اليومية، ولكلّ لهجة أغراضها الخاصة، العامية: تستخدم في التواصل الشخصي والتفاعل في الحياة اليومية، والفصحى تستخدم في الكتابة وتقتصر على السياقات الرسمية بصورة رئيسة، وتدرّس في المدارس على امتداد الوطن العربي.
نشوؤها
– نشأت الازدواجية اللغوية عند الألماني كارل كرمباخر فهو أول من تحدث عن هذه الظاهرة عام 1902م، ولكن يعود الفضل لوضع مصطلح الازدواجية اللغوية لـ وليم مارسين بالفرنسية عام 1930م، هو صراع بين لغة أدبية مكتوبة ولغة عامية شائعة ، وظلّ المصطلح محددًا إلى أن تبلور على يد شارل فيرغسون بالإنكليزية عام 1959م وبحث في أربع حالات لغوية تتميز بهذه الظاهرة، العربية واليونانية والألمانية السويسرية، واللغة المهجنة في هايتي، واتفقت الدراسات أن المقصود بالازدواجية اللغوية هو وجود لغتين مختلفتين عند الفرد أو جماعة ما في آن واحد.
وبحسب بحث الدكتورة الدياب، أوضح ابن منظور في مقدمة كتابه لسان العرب سبب تأليفه للكتاب وذكر أهمية حفظ اللغة العربية من الضياع إذ قال:»وذلك لما رأيته قد غلب في هذا الأوان من اختلاف الألسنة والألوان، حتى لقد أصبح اللحن في الكلام يعدّ لحنًا مردودًا، وتنافس الناس في تصانيف الترجمات في اللغة الأعجمية وتفاصحوا في غير العربية، فجمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوح الفلك وقومه منه يسخرون «.
خصائص الازدواجية اللغوية:
– التنوع الوظيفي : لكل مقام مقال، يتم استخدام اللغة نسبة إلى الأوضاع، ففي بعض الحالات يتم استخدام اللغة البسيطة بين الناس التي لا تتقن الفصحى، وفي الوقت ذاته لا نستخدم لهجة متدنية في مقام رفيع، فالتحدث مع الأشخاص في مكان عام لا يشابه التحدث مع أدباء ومثقفين في أمسية أدبية.
– المنزلة: تمتاز اللغة العربية الفصحى بمنزلة تجعلها أعلى المراتب لما تمتلكه من تطور ومكانة رفيعة.
– التراث الأدبي : لا نستطيع إغفال دور اللغة العامية التي وجدناها في الأمثال العربية وفي الحكايات الشعبية، والألغاز، فضلاً عن اللغة العربية الفصحى التي رافقت الأجناس الأدبية منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا.
– الثبات : تمتاز اللغة العربية الفصحى بالثبات والمقاومة بالرغم من كل المحاولات التي استخدمها العدو للنيل منها والقضاء على هويتنا العربية.
– القواعد النحوية : تمتاز اللغة العربية الفصحى عن العامية بالقواعد النحوية، في حين نجد أن القواعد النحوية تنعدم في اللغة العامية .
– التنوع : قد تختلف وظائف اللغتين الرسمية والمحكية من مجتمع لآخر كما تختلف درجة التداخل بين اللغتين من مجتمع لآخر .
– التغير : ويقصد بالتغير مجموعة العوامل التي تؤثر في خصائص الازدواجية اللغوية مع مرور الوقت، وقد يلعب التغير عاملاً مهماً في استبدال اللغة الفصحى باللغة العامية مثل التعليم والهجرة والعولمة.
– التمايز بين اللغتين : تختلف كل لغة وفق الصوتيات من حيث النطق ومخارج الحروف والنحو والصرف وتركيب الجملة والأفعال، المفردات والمصطلحات والتعبيرات، والدلالة من حيث معاني الكلمات والرموز والمجاز.
– الجدل : انقسمت الآراء بين مناصر ومعاد للازدواجية اللغوية، وتشعبت الأسئلة التي كان فحواها، هل الازدواجية اللغوية تثري اللغة وتعزز التنوع الثقافي أم هي تعوق تعليم اللغة الفصحى وتسبب الشتات؟
أسباب ظهور الازدواجية اللغوية :
– أولاً: العوامل التاريخية :
– الهجرة التي فرضت على المهاجرين استخدام لغة غير لغتهم الأم، والانفتاح الحضاري على البلدان الذي يفرض لغات ولهجات متعددة، واتساع الرقعة الجغرافية للعالم الإسلامي الذي أدى بدوره إلى اختلاط العرب بالثقافات المغايرة لثقافتهم مما أدى إلى تشتت اللغة العربية ودخول اللحن عليها.
الاستعمار:
هدف القوى المستعمرة هو القضاء على لغتنا العربية ، إذ أدرك الاستعمار القوة الهائلة المكتنزة في الفصحى ، وأدرك أنه لن يستطيع السيطرة السياسية إن بقيت اللغة العربية رابطة الهوية والثقافة والدين، فهدف العدو إلى تفكيك اللغة العربية الفصحى وتهديم بنيتها، والعمل إلى إحياء اللهجات المحلية بحجة أن اللغة الفصحى لغة كلاسيكية وأنها ضعيفة لا تستطيع مواكبة التطور.
– ثانيا: العوامل الاجتماعية :
لقد أدى التنوع الثقافي بين شرائح المجتمع الواحد إلى ظهور الازدواجية اللغوية، إذ ظهرت الفئات المختلفة من المجتمع التي تتحدث لغات مختلفة في نفس المجتمع، كما أسهم التفاوت الطبقي في وجود طبقات اجتماعية متعددة في المجتمع الواحد، وربما صعوبة التعلم أودت بالجهل وضعف اللغة في طبقات المجتمع الفقيرة التي بات همها تأمين مستلزمات العيش، ولا شك أن هدف المستعمر الأساسي هو إبعاد الأمة العربية عن التطور والعلم والتكنولوجيا، فأثّرت دون أدنى شك هذه الحروب التي عشناها في الآونة الأخيرة على حياتنا وعلمنا وتقدمنا، نظراً لصعوبة الحياة وتأمين المستلزمات فبات هم المواطن في المجتمع هو الطعام والشراب، أو الهجرة هرباً من الظروف المحيطة، وهذا بدوره أبعد شريحة من المجتمع عن التطور العلمي واللغة الفصحى ليهرب من واقع الحياة إلى الجهل والمأساة .
ولا شك أن الخطر الأكبر على اللغة العربية الفصحى يكمن فيما أطلق عليه اسم التطور المنوط بالشابكة الإلكترونية أوالإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي ومنصات الدردشة وتطبيقات المراسلات واستخدام اللهجات العامية في هذا النوع غير الرسمي من الكتابة، وهذا ما أسهم في نشر اللغة العامية التي باتت تخزن في ذاكرة الحواسيب وهي مليئة بالأخطاء الإملائية التي تشكل مرضاً يحدّق بالعربية الفصحى، ويسهم في نشر لغة لا تمت للغتنا العربية الفصحى بأي صلة بل تشوه اللغة الفصحى وتسهم في نشر العامية بين الناس.
العدد 1215 – 26 – 11 -2024