الملحق الثقافي:
اليس من حقنا أن نسأل الآن وقبل أي وقت / أين المثقفون ؟. مما يجري في العالم ، لماذا هذا الصمت هذا السؤال الصرخة تابعه الأستاذ صالح لبريني وكتب عنه في مجلة العربي العدد 792قائلاً:
ثمة إشكال مطروح بخصوص ما يجري من انقلابات على مستوى المفاهيم والمصطلحات، نظراً للمتغيرات القائمة على هذا المستوى، ومن بين هذه المفاهيم التي تحتاج إلى إعادة النظر مفهوم المثقف. فكيف يمكننا، في هذه الفترة الحضارية الحرجة، تحديد من المثقف وما الدور المنوط به في ظلّ الإبدالات والتحولات بفعل عامل العولمة، وما نجم عنها من تبديل الأدوار والوظائف؟ هذا الوضع حتّم علينا الاقتراب قدرالإمكان من إشكالية المثقف، محاولين إزالة ما علق بها من التباسات وتشابكات.
(1) المثقف والمشروع المجتمعي
يبدو السؤال مثيراً للكثير من علامات الاستفهام، وللقلق والحيرة، وأحياناً للاستغراب، في ظلّ ما تشهده الساحة الثقافية من غياب تام للمثقف باعتباره الفاعل والمؤثرفي مسار التاريخ الإنساني، والمنخرط الفعلي في أسئلة الحاضربتقديم مقترحات تلتمس المستقبل وتبني عليه مشروع الأمة الثقافي والمجتمعي، من خلال، إضاءة أسئلة الماضي وإشكالاته، تعديلاً، ترميماً أو معارضة، تلفيقاً أو توفيقاً، وهنا تكمن وظيفة المثقف الأساس – كما تمّ التنظير لها من لدن المشتغلين بالحقل الثقافي، الذين وضعوا أساس التفكير في تحويل الثقافة إلى آلية ناجعة للسير قُدُماً نحو التطور والرقيّ، وإنه طريق لخلق مجتمع مفكّر ومبدع ومنتج، والتفكير والإبداع والإنتاج لن يكون له وجود إلا في ظل مناخ من الحرية والانفتاح الحضاري والتلاقح الثقافي المثمر. وهو منظورلعب دوراً مهماً في مسار الفعل الثقافي في العالم العربي، في سياقات تاريخية واجتماعية وسياسية كانت كفيلة بإنعاش المنتوج الثقافي بتجلياته المختلفة، لأن هذه السياقات كانت تستجيب لسؤال الوحدة العربية ورهاناتها المستقبلية. فحدثت ثورة ثقافية ظاهرة للعيان، وإشعاعها قائم الذات في المحافل العربية والدولية، خصوصاً في ظلّ مشروع قومي نهضوي جامح باسم الوحدة والعروبة والقومية، إلا أنّ هزيمة 67 كانت بداية استفاقة المثقف العربي من الأوهام والرهانات والأحلام، ليجد نفسه مطوّقاً بخيبة الطموحات والتطلعات، بل شاهداً على اندحار السلطة السياسية بشعاراتها، البعيدة عن الواقع العربي المتخلف، والعاجزعن المقاومة، مشلول الإرادة، فاقداً للبوصلة. ما فرض على المثقف العربي إعادة النظروأخذ المسافة منه، أمام انهيارالمشاريع، وتراجع الحلم العربي بالوحدة، لتغرق البلاد العربية في ليل دامس مدلهم، لا نور يبرق ويلمع، ويشع في سماء الوطن العربي الممتد من بحرالظلمات إلى نهرالأردن.
في ظلّ هذا كلّه لم يتبق للمثقف من ذريعة للتشبث بأعطاف السلطة، فأعلن الطلاق معها، لتعود الذات إلى جوهرها الوجودي، طارحة أسئلة حارقة، وكاشفة عن أعطاب المجتمع العربي، ومتوقفة عند الدواعي الكامنة وراء هذه الخيبات المتتالية في تاريخ الأمة العربية. ونشيرإلى أن ما أعقب هزيمة 67 من تنازلات للأنظمة العربية، شرَعَ الباب على مصراعيه للهزيمة الكبرى التي ستعرفها الأمة العربية؛ بعد ذلك إلى يومنا هذا، وأصبح المثقف غائباً كلياً عمّا يمور به المجتمع من ارتجاجات وتململات، خارج أسئلة التاريخ. بل إن واقع الحال ينذر بصورة كارثية لانتفاء المثقف، الذي أصبح وجوده من دون جدوى، فارغ المعنى والدور والوظيفة، لأن السياق العام يؤكد هذه الحقيقة المُرة. فالمثقف، اليوم، لا يحمل مشروعاً إصلاحياً، أو ثورياً أو وطنياً، بقدرما غدا غارقاً في أوهام زادت من حدّة الأزمة، لكونه ابتعد عن التاريخ وعن المجتمع وقضاياه، والابتعاد عن التاريخ ابتعاد عن المستقبل، بعبارة أخرى في غياب العمق التاريخي بالقضايا المعاصرة يتحوّل الإبداع إلى هلوسات نرجسية مرضية تكون بعيدة كلّ البعد عن المجتمع وتحولاته.
وقد نعت المثقف، في الماضي، بأوصاف كثيرة فهو المثقف المشاكس والعضوي في نظرغرامشي، والمثقف الشجاع عند جوليان باندا، والمثقف الكوني أو الكلي لدى جون بول سارتر، والمثقف الخصوصي أو النوعي من وجهة نظر ميشيل فوكو، والمثقف الملتزم أو المثال لبورديو، والمثقف الفطين التفكير الواضح الرؤية عند محمد عابد الجابري. إن هذه التوصيفات تكشف عن حقيقة الأدوار التي أنيطت بالمثقف، والمتمثلة في الجدال والنقاش والمساهمة في إثارة القضايا الحساسة والمصيرية، والجهر بالحقيقة والرأي والمواقف التي تخدم الإنسان والمجتمع. وهذا لن يكون إلا بامتلاك المثقف الوعي الفكري والفلسفي والسياسي.
(2) المثقف والثورة الرقمية
لقد حدثت إبدالات جوهرية، بفعل الثورة الرقمية، وما تلاها من انهيار في كلّ الأدوارالمنوطة به، كأحد أقطاب التغييروالفاعلين الأساسيين في أي إصلاح، دون إغفال أن المعرفة لم تعد حكراً على الفئة المتعلمة، التي تعرف كيف تفكّ الحروف والشّفرات والخطابات، بل تحوّلت الوسائط الاجتماعية الوسيط الأكثر تأثيراً في نشرالمعارف والمدارك، فنجم عن هذا انقلاب في أدوار المثقف ومكانته. فطاله التهميش والتّغييب بقوة التكنولوجيا. ذلك أن الوسيط الرقمي غيَّر النظر إلى الفرد والمجتمع، وطرح منظومة علاقات إنسانية جديدة. وأحدث تغييراً في مفهوم الثقافة إذ لم تعد محصورة في نطاقٍ معيّن، بل غدت ذات حمولات أخرى.
وعليه يمكن الإقرار بلا جدوى تناوُل موضوع المثقف بالتصور القديم، بل لابدّ من نهج تصور جديد في مقاربة مفهوم المثقف والثقافة. فثقافة الإشكالات والقضايا الكبرى لم يعد لها محل من الوجود، إذ تمّ طمسها وإقبارها لتطفو على السطح ثقافة الابتذال والتفاهة والماركوتينغ، فبعد أن كانت تتوجه إلى مخاطبة العاطفة والعقل معاً، غدت، في الراهن الحالي، منشغلة بترويج أفكار منفصمة عن الواقع المعيش وتحولاته الرهيبة، وإشاعة قيم اللامعنى كإجابة على فقدان الإنسان لكينونته وإنسانيته. وبالتالي فمصطلح «الثقافة» تمّ إفراغه وملئه بمدلولات ذات بعد تجاري استهلاكي بعيدة كلّ البعد عن جوهرالعلم والمعرفة. إنها ثقافة الرأسمال والاقتصاد المتوحش. وأمام هذا الانتقال من عالم المعنويات إلى عالم الماديات وقعت الفجوة وازداد الشرخ بين الواقع والحلم، وانصرف المعنى إلى حال سبيله؛ تاركاً للامعنى المجال فسيحاً ليعيث فيه إسفافاً وانحطاطاً وسطحية.
المثقف اليوم لا وجود له، أَثره عدم وتأثيره وَهْمٌ لمن يعيشون خارج سؤال التحوّل والإبدال، ذلك أن بعض من يعتقدون أنهم «مثقفون» مازالوا في أوهامهم غارقين ومتوهمين على أنهم حماة القيم والأخلاق والعقل من الانهيار والزوال، لكونهم لم يستوعبوا ما جرى وما يجري من انقلابات على كافة المجالات بفعل عوامل العولمة وما خلّفته من تراجعات على مستوى القيم الإنسانية.
فالإنسان، بصفة عامة، يسيرُ بتؤدة في الوعي وسرعة فائقة وخارقة في التكيّف إلى النهاية المنتظرة، ذلك أن المتحكمين في دواليب السياسة العالمية يسعون جاهدين إلى تغيير نمط التفكير وتحويل العالم إلى فضاء ينعدم فيه التفكير والإبداع والثقافة، عالَم لا يؤمن إلا بالزائل، أما الأبدي الدائم فهو مجرد أساطيرالأولين في منظورالعولمة الجارفة.
ختم الكلام
على ضوء ما سبق يمكن القول :إن المثقف، من منظورالعولمة، تحوّل إلى مورث تمّ وضعه في متحف النسيان والإهمال، إلا أنه يشبه العنقاء، بانبعاثه من رماده ليعلن وجوده، ففي تغييبه أو غيابه لن تستقيم الحياة في الوجود، فالجهل عدوّ الإنسان، وبمجرد هيمنته فلن تجني من ورائه الإنسانية سوى نهايتها المحتومة. لذا وبالرغم من الوضع المظلم والملتبس المحيط بالمثقف، فإن شمسهُ لابدّ أن تضيء ظلام العالَم، ليحمل مشعل التنوير والفكر العقلاني، متحدياً المثبطات في عالم الضحالة، الذي يجهر بصوته عالياً على هذه الأرض الممتدة في عزلتها والمطوقة بالمجهول.
العدد 1215 – 26 – 11 -2024