الملحق الثقافي- فلك حصرية:
حيَّيتُ سفحَكَ عن بعدٍ فحيِّني يا دجلة الخير، يا أم البساتين
حيَّيتُ سفحَكَ ظمآناً ألوذ به لَوْذَ الحمائم بين الماءِ والطينِ
يا دجلةَ الخير يا نَبْعَاً أُفَارقُهُ على الكراهةِ بين الحينِ والحينِ
إنِّي وردْتُ عيون الماءِ صافيةً نبعاً فنبْعاً، فما كانت لترويني
وأنتَ يا قارباً تَلْوي الرياحُ بهِ ليَّ النسائِم أطراف الأفانينِ
وددْتُ ذاك الشِّراع الرّخصَ لو كفني يُحَاك منه، غداةَ البينِ، يطويني
هو نداء… اشتياق، مناجاة، تمنن، حلم، كشف عن لواعج اشتياق ولهفة عشق ولهفة… عطش، وظمأ، عالم لا حدود له أو وصف، فبرغم مياهه السبيل السلسبيل إلاَّ أن محمداً لا يرتوي، تتنازعه مخالب اليباس، وتمزقه أنياب الغربة والاغتراب، فعراقة يلاحقه، يلتصق به، ويسارع إلى فؤاده ليكون روح سقية، ونبض عودة وعودة إلى ماض بدأه في مسقط رأسه وغادره في رحلة حياة واغتراب وحنين…
في النجف الأشرف، وفي عراق الوطن والموطن، كانت الولادة، ولادة محمد عاشق دجلة الخير: إن الشعر هدهدة للسمع ما بين ترخيم وتنوين، مزمار داود أقوى من نبوته فحوى وأبلغ منها في التضمين.
لقد نشأ شاعرنا الكبير وسط أسرة أكثر رجالها من المشتغلين في العلم والأدب إلى جانب ما عُرف عنها من سمعة ومقام بالنسبة للأوساط النجفية: الدينية والأدبية وكان والده «عبد الحسين» عالماً من علماء النجف، وقد دفعت الميزات التي تمتع بها محمد من ذكاء، وقدرة كبيرة ومتميزة على الحفظ، على أن يلبسه والده عباءة العلماء وعماماتهم، ليكون عالماً، ولما يبلغ العاشرة، ولعل حملها لـ /لقب آل الجوهر/ إنما يعود إلى المؤسس الرئيس، والذي يُدعى/ الشيخ محمد حسن/ صاحب الجواهر، وقد ألف هذا الأخير كتاباً في الفقه، يحمل عنوان «جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام» من هنا يمكن أن نشير إلى تسمية أو لقب محمد مهدي بـ «الجواهري» كذلك لا بد من التنويه أن لأسرته مجلساً عامراً بالأدب في النجف الشريف، يرتاده الأدباء وكبار الشخصيات العلمية والأدبية.
لقد كان والده عبد الحسين حريصاً على إرساله إلى المدرسة، وأن يُدرّس من قبل أساتذة كبار يعلمونه أصول النحو والصرف والبلاغة والفقه. ولا يفوتنا هنا من التذكير بمشاركته في «ثورة العشرين» ضد السلطات البريطانية، وأنَّ أول مجموعة شعرية له صدرت وهو في سن الخامسة والعشرين من العمر، وهي تحمل عنوان «خواطر الشعر في الحب والوطن والمديح»، أما على صعيد نشاطه السياسي، فقد عُدَّ الشاعر الجواهري من الأعضاء المؤسسين له، حيث أجازت الحكومة للحزب الوطني ممارسة العمل السياسي، وفي الثاني من نيسان/ إبريل/ في العام/ 1946/ اتخذ الحزب من جريدة «الرأي العام» ناطقاً رسمياً له، إلا أن الحال لم يطل به إذ سرعان ما قدَّم استقالته من الحزب في آب 1946 نتيجة خلافات بين أعضاء الحزب، وظل يواصل نشاطه السياسي، والصحفي، حيث كان مسؤولاً عن جريدة «الرأي العام» وفي العام 1947 انتخب نائباً في مجلس النواب العراقي، واستقال بعد عام واحد فقط لمعارضته معاهدة «بورتسموث» التي كان شقيقه أحد ضحاياها، نتيجة لتعرضه لإطلاق ناري، خلال التظاهرات، ومقتله متأثراً بجروحه بعد عدة أيام، وقد كتب محمد مهدي الجواهري قصيدتين يرثي فيهما أخاه بعنوان «أخي جعفر» و»يوم الشهداء».
يقول في قصيدته «أخي جعفر»:
أخي جعفراً يا وراء الربيعِ إلى عَفِنٍ باردٍ يُسْلَمُ
ويا زهرةً من رياضِ الخلودِ تََغَوَّلها عاصفٌ مُرْزِمُ
ويا طلعةَ البِشْرِ إذ ينجلي ويا ضحكةَ الفجرِ إذ يَبْسِمُ
لَثَمْتُ جراحَكَ في «فتحةٍ» هي المصحفُ الطهرُ إذ يُلْثَمُ
مما تميَّز به مشاعر العرب الكبير قدرته الفائقة على حفظ الكثير من الشعر القديم والحديث، وبخاصة شعر المتنبي، وكذلك اشتغاله بالتعليم في فترات من حياته إلى جانب انخراطه في المجل الصحفي في فتراتٍ أخرى، فأصدر جرائد «الفرات» ثم «الانقلاب» و»الرأي العام» إلى جانب إصداره في العام1923 أول دواوينه «حلبة الأدب» وهو مجموعة من المعارضات لمشاهير شعراء عصره مثل «أحمد شوقي ـ إيليا أبو ماضي» ولعدد من السابقين كـ «لسان الدين بن الخطيب وابن التعاوندي» تلاه ديوان: بين الشعور والعاطفة 1928 ـ وديوان الجواهري (1935 ـ 1949 ـ 1953) «في ثلاثة أَجزاء كما نوَّهنا.
يتَّسم شعر الجواهري بالجزالة والقوة، والبراعة في توظيف الكلمة والموسيقا والخيال والصورة ضمن إطار فريد متفرد، وفي سياق إيقاعات موسيقية وتناسقية تراكيب، ومعان، وفنون لفظية، بديعية، رشيقة البيان والتبيين، مرصوفة الجواهر والدرر المنثورة وفق نظم شعري كلاسيكي فريد ومتمكن تتعانق فيها الحروف والخطوط، الأحاسيس والنبضات لتقدم للشعر من آيات الإبداع ما قلَّ وندر، ولتعرب عن مقدرة خارقة تمتع بها الشاعر العربي الأكبر والأعظم، نزيل دمشق، ومعانق ترابها في تلاقي العشاق والانصهار تحت ظل حنون توشحه خضراء الأنسام من
السيدة زينب مزينة جثمانه بمرقد لأكبر شعراء العصر… الغائب الحاضر، ما دامت دمشق خالدة، وفارسها المؤسس الخالد حافظ الأسد الراعي الأكبر لضيف سورية الفذ، وللمحب المقيم ما أقام الشعر:
شَمَمتُ تُرْبَكِ لا زُلْفَى ولا مَلَقَا وسرتُ قَصْدَكِ لا خِبَّاً ولا مذِقا
وما وَجَدْتُ إلى لُقْيَاكِ مُنْعَطَفَاً إلاَّ إليكِ، ولا ألفيتُ مُفْتَرَقَا
كُنْتِ الطَّريق إلى هاوٍ تُنَازِعه نفسٌ تَسُدُّ عليه دونَها الطُّر
العدد 1215 – 26 – 11 -2024