د. محمد الحوراني:
ما بينَ هروب زين العابدين بن عليّ من تونس عام 2011 وهروب بشار الأسد من سورية أواخر عام 2024 تقاطعاتٌ كثيرةٌ لا يمكن لعاقلٍ أن يُنكرَها، وخاصّةً فيما يتعلّقُ بالاستئثار بالحكم من قِبَلِ سيّداتِ القصرِ ومتنفّذات العائلةِ الحاكمةِ؛ وهي عائلةٌ لا تُشترَطُ فيها نسبةُ الدمِ بالقرابة، وإنّما قرابةُ المصلحةِ وإهانةُ الشعب والاستبدادُ والاستئثارُ بسرقةِ أموال الشعب والاستبداد به، قبلَ أن يقومَ بعضُ أفراد العائلةِ الحاكمةِ بالهرب تاركينَ أفرادَ الشعب يُواجهون مصيرَهم بعد أن قاموا بخديعتِهِ لفترةٍ طويلةٍ من خلال شعاراتٍ وهميّةٍ؛ أجبرتِ الشعبَ على القبول بها بالتخويف من المعتقلاتِ والسجونِ، التي لم يكن أفراد الشعب يعلمون حقيقة ما يجري في زنازينها، حيث كان الموت يُخيِّمُ على جدرانها التي صبغتها دماء الشهداء والمعتقلين بلون ورائحة القتل والإذلال والإهانة. وإذا قامَ رأسُ النظام التونسيّ بالهربِ من البلاد مع بداية الثورة التي اشتعلت في البلاد بعد أن أحرقَ “البوعزيزي” نفسَه، إلّا أنّ بشار الأسد أبى الهروبَ من سورية إلاّ بعَد حرقِها وتدميرِها مُخِّلفاً مئات الآلاف من الشهداء والمعتقلين والمفقودين والمُغيَّبين، فضلاً عن تدميرِ بُنيانها؛ وتركِ ما بقيَ من الشعب بين مُدَمَّرٍ نفسيّاً أو مهجرٍ خارجَ بلاده، في الدول العربيّة والأجنبيّة، الأمرُ الذي جعلَ هذا الشعبَ برمَّتِهِ سعيداً بزوال الكابوس الذي جَثَمَ على صدره لفترةٍ طويلةٍ محاولاً قطعَ ما بقيَ من أنفاسه الطاهرة من خلال منعهِ من الحصولِ على أدنى مقوّماتِ الحياةِ بعزة وكرامة.
لا بل إنَّ هذا الشعبَ غدا أعجزَ من أن يمتشقَ سلاحَه دفاعاً عن أيّ ظالمٍ ومغتصبٍ لكرامته بعد أن رأى ما رآه من الذلِّ والإهانةِ على أيدي من يُفترَضُ فيهم أن يدافعوا عنه؛ ويؤَمّنوا له ولأطفاله قوتَ يومهم وكَفافَ عيشهم، انطلاقاً من الخطاباتِ والشعاراتِ التي قتلتِ الإعلامَ والثقافةَ والتربيةَ والتعليمَ في دولةٍ يُفترَضُ فيها أن تكون رائدةً في الثقافةِ والتربيةِ، وغيرها من مفاصل الحياة الأساسيّة في المشهد السوريّ بتفاصيله كلِّها، وهذا لا يعني بحالٍ من الأحوال أن الشعبَ السوريَّ غيَّرَ قناعاتِه، وبدّلَ آراءه في القضايا الأساسيّة ولاسيّما موقفَه من الكيانِ الصهيونيّ.. صحيحٌ أنّ الاحتلالَ الصهيونيَّ استغلّ هربَ الجيشِ مع دخولِ قوّاتِ التحريرِ دمشقَ صبيحةَ 8- 12- 2024 وقام باحتلالِ مساحاتٍ كبيرةٍ من الجنوبِ السوريّ وصولاً إلى بوّابةِ دمشقَ الغربيّةِ، إلّا أنّ هذا لا يعني القبولَ الشعبيّ والمجتمعيّ بهذه الاستباحةِ وهذا الاحتلالِ ، بل إنَّ المتابعَ لأحاديثِ المجتمع السوريِّ يُدركُ تماماً الرفضَ الشعبيَّ الكبيرَ لِما قامَ به الكيانُ الصهيونيُّ في بلاده، ولاسيّما أنّ هذه المساحاتِ الكبيرةَ من الأراضي السوريّةِ؛ فضلاً عن غناها بثرواتها ومياهها لها بالغُ الأهميّةِ الاستراتيجيّةِ كمواقعَ حدوديّةٍ مشرفةٍ على دولِ المنطقة، ولمّا كانت أولويّةُ القيادةِ العسكريّة السوريّة الجديدة تحريرَ أراضي سورية من الإذلالِ والاستعباد؛ وهو ما حدث صبيحة الثامن من كانون الأول ٢٠٢٤، فإنَّ الأملَ كبيرٌ عند الغالبيّة العظمى من أبناء الشعبِ السوريّ بأن تقومَ هذه القيادةُ وعلى رأسها القائدُ أحمد الشرع ببذلِ كلّ ما يمكنُ من أجلِ استعادةِ الأراضي المحتلّةِ في الجنوبِ السوريّ، ولا سيّما أنّ البلادَ تُعاني من مشكلةٍ كبيرةٍ في نهبِ الثرواتِ والخيراتِ شرقَ البلاد وجنوبَها، وبالتالي فإنّ قيامَ العدوِّ الصهيونيّ بالسيطرةِ على مساحاتٍ كبيرةٍ وسدودٍ كثيرةٍ جنوبَ البلاد من شأنه أن يفاقمَ المشكلةَ ويزيدَ من المعاناةِ الشعبيّةِ على المستوياتِ جميعِها، كما أنّ الشعبَ السوريّ يأملُ من قيادته الجديدةِ الانفتاحَ على مُكوّناتِ المجتمع السوريّ جميعِها، للحفاظ على الهويّة الإنسانيّة والحضاريّة التي تُميِّزُ سورية بتاريخِها وثقافتِها، وهي الهويّةُ التي تزيدُ قوّةَ بلادنا وغناها، وهذا لا يتحقّقُ إلّا بإطلاق حوارٍ وطنيٍّ شاملٍ يحتضنُ الأطيافَ والمكوّناتِ كلَّها، ويُعزِّزُ الثقةَ والتماسكَ المجتمعيّ، الذي تَهشّمَ نتيجةَ ما قامت به عائلةُ الفسادِ السلطويِّ من ممارساتٍ؛ ضربتِ البُنى المجتمعيّةَ ونَسَفتْ العلاقات بين أبناء سورية.
لقد آن الأوانُ لنعملَ كفريقٍ واحدٍ من أجل بناء بلدِنا والحفاظِ على وحدتِه واستقرارِه، بعيداً عن ثقافة الاتهاماتِ التي من شأنها أن تعمّقَ الشرخَ بين أبناء الشعبِ، وتجعلَهم لقمةً سائغةً لكلّ محتلٍّ وطامعٍ، ومن الصعبِ أن ننجحَ في ذلك دونَ تحقيقِ الأمن الثقافيّ والارتقاءِ بثقافةِ الشعبِ بعيداً عن التخندقاتِ الضيّقةِ والتعصُّباتِ المَقيتةِ التي أتعبتِ المجتمعَ وأرهقتْ كاهلَه.
إنّنا بأمَسِّ الحاجةِ لإعمالِ العقلِ وتدعيمِ بُنى الأمنِ الثقافيّ، إلى جانبِ الأمنِ الاقتصاديِّ والعسكريِّ والسياسيِّ، بعيداً عن العقليّةِ الأمنيّةِ، وثقافةِ الخوفِ والإلغاءِ والإقصاءِ، التي أثبتتْ فشلَها في حمايةِ المجتمعاتِ وتحصينِ البلاد.