كرر الرئيس “الشرع” في خطاباته منذ دخوله إلى دمشق عقب سقوط نظام الأسد، وصولاً إلى الخطاب الأخير بمناسبة رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، التذكير بمحافظة “إدلب” ودورها المحوري التي انطلقت منها أولى خطوات تحرير سوريا من الديكتاتورية، مبرزاً أهميتها في كل خطاب، مميزة عن جميع المحافظات السورية الأخرى.
تحمل “إدلب” رمزية حاضرة دوماً في فكر الرئيس “الشرع”، فهي التي عاش فيها لسنوات، وكانت بداية تجربته في الحكم ولو على مستوى محافظة محاصرة، عايش أهلها بكل مراحل الثورة، كان قريباً من عامة الشعب والثوار والمهجرين من كل المحافظات، تشارك معهم القصف والحصار، قبل أن يغادرها محرراً إلى حلب ومن ثم إلى دمشق، رغم ذلك لم يغب حضورها، فكرر اسمها لعشرات المرات في لقاءاته وخطاباته، وخصها بأول زيارة له عقب توليه الرئاسة.
لم تكن “إدلب” مجرد أرض جمعت بين سهولها وجبالها ملايين السوريين المعارضين لحكم نظام الأسد لسنوات فحسب، بل كانت كالأم الحنون التي احتوت جميع القوى والتيارات على اختلاف توجهاتها، عاشوا جميعاً في أوقات الشدة والرخاء، تحملت الحصار والتضييق والقصف اليومي، ورويت أرضها بدماء الآلاف من الشهداء على طريق الحرية الطويل، تاركةً أثراً وحنيناً لكل من عاش فيها وشارك أهلها لقمة العيش والمسكن.
عانت محافظة إدلب طيلة عقود طويلة من التهميش والنسيان على عهد حافظ الأب، ومن ثم الابن بشار، ليس لموقعها في أقصى الشمال بعيداً عن مركز الدولة، بل لموقفها المعارض لحكم عائلة الأسد، منذ سيطرة حافظ على السلطة عام 1970 وعدم احتفائها به عندما زارها، بل أكثر ما أثار الحقد تجاهها هو تعرض “حافظ” للرمي بالأحذية والطماطم عندما زارها للمرة الأولى والتي كانت الأخيرة، قبل أن يحاربها عبر الإهمال والتهميش، وسار على نهجه بشار الابن.
ليست ثورة “إبراهيم هنانو” ضد الفرنسيين، ولا حتى الحراك المعارض للأسد في أحداث الثمانينات وحدها التي تميز نزعة أهالي إدلب لرفض الظلم ومواجهة الاستبداد، بل في ثورة الحرية عام 2011، كانت إدلب من أولى المحافظات التي ثارت نصرة لدرعا، وخرج ثوارها مبكراً ينادون ويطالبون بالحرية، كما أن أساس الحراك المسلح بدأ في إدلب انطلاقاً بحركة الضباط الأحرار التي أسسها “حسين الهرموش” ومن ثم الجيش السوري الحر “رياض الأسعد” أبناء تلك المحافظة، والآلاف من الثوار الأحرار الذين ساروا على الدرب.
لعبت إدلب دوراً محورياً في مواجهة نظام الأسد، رغم كل المجازر التي ارتكبها في السنين الأولى نستذكر منها “وادي بدمايا – معسكر المسطومة …” وسلسلة طويلة من المجازر، لم تُثن أبناءها عن الثورة، بل كانت الدافع للتصعيد والتحرير مبكراً، إذ خرجت جميع مناطق الريف عن سيطرة جيش الأسد منذ عام 2012 وتحرر مركز المحافظة والمدن الأخرى في عام 2015 فكانت ملجأ للثوار والمنشقين وكل المهجرين من ديارهم لاحقاً.
عمل نظام الأسد ومن خلفه حلفاؤه، على إلزام جميع الفصائل والثائرين الرافضين للتسويات بالخروج إلى إدلب، فكانت حملات التهجير من حمص ودرعا ودمشق وحلب إجبارية إلى إدلب، لتكون منطقة معزولة، مهددة بالقصف الجوي والأرضي يومياً، مع حملات تشويه لصورتها محلياً وخارجياً وجعلها كمنطقة سوداء، رغم ذلك استطاع الثائرون التكاتف رغم كل الخصومات والصراعات الداخلية، وتمكنوا من توحيد صفوفهم، فخاضوا عشرات المعارك في مواجهة أعتى قوى الأرض إجراماً، ولم يستسلموا أو يُسلموا.
كان عام 2019 وبداية عام 2020 عام نكسة كبيرة في إدلب، بعد فقدان الثوار السيطرة على مساحات كبيرة في أرياف إدلب الجنوبية والشرقية وأرياف حلب وحماة، وسيطرة النظام وحلفائه على أوتوستراد حلب – دمشق الاستراتيجي، والتهديد بالوصول إلى باب الهوى، لكن هذه الانتكاسة كانت بداية الصحوة لتوحيد القوى، والإعداد للمعركة الحاسمة التي قصمت ظهر النظام وأسقطت أركانه نهاية عام 2024 فاستحقت إدلب لقب “عاصمة الثورة” ومنطلق التحرير.
لا تُختصر إدلب اليوم بأبنائها، بل بكل من عاش فيها من أبناء سوريا العظيمة، وعندما نستذكر إدلب لا يعني أن نهمل بطولات وتضحيات أبناء المحافظات الأخرى، بل لأن إدلب كانت الحضن والمركز الذي ضم جميع الثوار وكل رافض للخنوع والظلم والاستبداد، حملت همهم ومسؤولية من كان تحت كنف النظام يعاني الويلات من البؤس ومرارة الجوع والتسلط، فانبعثت أولى خيوط الحرية من إدلب، وامتدت لباقي التراب السوري، معلنة أن الشعب السوري واحد ولن يقبل الظلم، ولن يقهره أي مستبد، وأن البقاء لأصحاب الأرض، وليس لمن باع هذا الشعب لجني المال والتفرد بالسلطة.
*إيمان زرزور _كاتبة صحفية