بيئة العمل السامة .. كيف نكسر إرث الصمت ونبني ثقافة العدالة؟. التغيير الحقيقي لا يصنعه القانون وحده بل الضمير
هني الحمدان :
في سوريا الجديدة، وبعد سنوات من الخوف والسكوت القسري، تلوح في الأفق ملامح مرحلة يتوق فيها الناس إلى العدالة، والمساواة، وكرامة الإنسان في بيئة العمل كما في المجتمع.
لم يعد الصمت فضيلة ولا النجاة في الانحناء، بل أصبحت الشجاعة الأخلاقية واجباً وطنياً ومهنياً، ولعل أهم ميدان لهذا التحول هو ميدان العمل، حيث تتجذرالعادات، وتُختبر القيم، وتُبنى المؤسسات أو تُهدم.
لكن لا تزال بعض العادات السامة تُطاردنا من ماضٍ قريب.. صمت الموظفين عن الظلم، واستمرار ممارسات كالرشوة، والمحسوبية، وإساءة استخدام السلطة. فكيف نكسر هذا الإرث؟.
وكيف نؤسس لثقافة عمل قائمة على الشفافية والعدالة في سوريا ما بعد التحرر؟.
الموظف الجديد في الوطن الجديد
أمام كلّ موظف اليوم فرصة ليكون عنصر بناء لا مجرد ضحية. لم تعد حجة “الخوف من السلطة” مبرراً للسكوت، ولا سبيل لتقدم مجتمع دون جرأة على رفض الظلم والتبليغ عن الفساد.
فالموظف النزيه هو من يرفض أن يكون شاهد زور، أو شريكاً في منظومة تنهش حقوق الآخرين.
لقد وُلد في سوريا جيل جديد من الموظفين الأحرار، ممن تعلموا أن القهر لا يُقاوم بالسكوت، بل بالمطالبة بالحقوق والعمل وفق القانون، ولو بدأ ذلك بكلمة حق تُقال في وجه عادة خاطئة، أو تجاوزغير مبرر.
لا للرشوة… لا للمحسوبية:
في ظل النظام الساقط، كانت الرشوة والمحسوبية أدوات “لتمرير الأمور”، واليوم يجب أن تكون موضع تجريم أخلاقي قبل أن تكون مخالفة قانونية وهنا يقدّم الباحث الاقتصادي محمد السلوم رايا صريحه حول الرشوة وتوابعها قائلاً : فلا معنى للتحرر السياسي دون تحرر إداري.
ولا يمكن بناء دولة حديثة بموظفين يبررون الخطأ بـ”هكذا تعوّدنا”.
التغيير يبدأ من الداخل:
من أن يرفض الموظف أن يأخذ مالاً لا يستحقه، أو أن يقرّب أحداً على حساب الكفاءات، أو أن يغمض عينيه عن ظلم يقع أمامه بحجة “السلامة الشخصية”.
التغيير الحقيقي ليس في الشعارات، بل في الموقف اليومي، الصغير، الصادق، حسب وصف الباحث السلوم .
بناء مؤسسات بلا خوف:
بيئة العمل العادلة لا تُبنى من فراغ، بل تحتاج إلى أنظمة مساءلة فعّالة، وقنوات شكاوى تحمي المبلّغ لا تعاقبه، ومؤسسات تدعم الشفافية لا تتستر على الفساد.
على الإدارات الجديدة أن تنشئ آليات واضحة مثل:
-صناديق شكاوى إلكترونية محمية. لجان تحقيق محايدة
-برامج توعية داخل المؤسسات حول الحقوق والواجبات
-كما يجب تدريب الموظفين على مفاهيم الحوكمة الرشيدة، ومهارات التواصل، وحقوقهم القانونية، ليشعروا بالأمان عند الإبلاغ عن الانتهاكات.
الصمت في بيئة العمل لا يؤدي فقط إلى انتشار الفساد، بل إلى احتراق وظيفي داخلي، يشعر فيه الموظف أنه مجرد ترس مكسور في آلة ظالمة.
لذلك فإن دعم الصحة النفسية للعاملين، وتقدير جهودهم، والتعامل معهم بكرامة، هو جزء لا يتجزأ من الإصلاح المؤسسي.
سوريا الجديدة تحتاج موظفاً جديداً:
إذا كانت سوريا الجديدة قد تحررت من قبضة الاستبداد، فإن عليها الآن أن تتحرر من إرث الصمت والخوف داخل مؤسساتها.
كلّ موظف يجب أن يدرك أن العدالة تبدأ منه، وأن النزاهة ليست رفاهية، بل ضرورة لبناء وطن يستحق أن نعيش فيه بحرية وكرامة.
لنكن الجيل الذي يكسر حلقة الصمت، ويرفع راية الشفافية، ويؤسس لثقافة عمل لا مكان فيها للفساد ولا للمحسوبية.
فبناء المؤسسات يبدأ من سلوك الأفراد، والتغيير الحقيقي لا يصنعه القانون وحده، بل يصنعه الضمير.