الثورة – إيمان زرزور:
ليست العودة إلى الديار مجرد خطوة باتجاه الجنوب أو الشمال، بل هي رحلة نحو الذاكرة، نحو مكانٍ لم يفارق القلب مهما طال الغياب، كثيرون من السوريين عادوا إلى قراهم المدمّرة بعد سنوات من النزوح، ليكتشفوا أن ما تبقّى من بيوتهم لا يتجاوز بعض الحجارة الصامتة، وأن ما ينتظرهم ليس سوى الركام… والذكريات.
في البعد، ظلّت صورة البيت قائمة: الحديقة الصغيرة، ساحة الدار، المجلى الحجري، ومفتاح الباب المعلّق عند المدخل، كانت هذه التفاصيل تسكن القلب، تعيش في الذاكرة، وتُروى للأبناء كما لو كانت قصصًا من زمن جميل، لكن الواقع حين تواجهه العيون لا يشبه شيئًا من ذلك.
فالبيت الذي كان ملاذ الطفولة، أصبح أرضًا محروقة، تتناثر فيها الأطلال، الجدران انهارت، النوافذ اختفت، وأثاث الحياة اليومية أصبح ترابًا، الدفاتر القديمة، الصور العائلية، الأغطية المطرّزة، كلها دُفنت تحت الحجارة. حتى الهواء، لم يعد يحمل ذات الرائحة.
يقوم “محمد” مهجر من ريف حماة إلى مخيمات كفرلوسين، إنه قرر العودة إلى قريته بسهل الغاب، عقب سقوط النظام، لينهي سنوات من الغربة والبعد، أمله أنه يعود لحقله الزراعي ومنزله القريب منه، لكنه فوجئ بأن الدار والمنزل والمأوى لم تعد موجودة بل باتت أثراً بعد عين، قد محتها دبابات النظام وراجماته.
“بانة الرحيم” من أبو الظهور شرقي إدلب، دمرت طائرات حربية للنظام منزلها في المدينة، لكنها تُصر على العودة وبناء خيمة إلى جانب المنزل المدمر، هناك تجد راحتها وتشعر بالطمأنينة، تعلم أولادها حب الديار والأرض والتمسك بها، وتؤكد لهم أنهم سيكبرون ويبنون ما تدمر ويعيدون الألق لها بعرق جبينهم.
يواجه العائدون إلى قراهم المهجّرة سلسلة من التحديات القاسية، تبدأ بالبنية التحتية المنعدمة، ولا تنتهي بالحاجز النفسي، فهم يعودون إلى أماكن بلا ماء، بلا كهرباء، بلا مستوصفات، وأحيانًا بلا أمن، الطرق التي يعرفونها أصبحت وعرة، والخدمات الأساسية غائبة تمامًا.
البيوت تحتاج إلى ترميم، لكن الإمكانات محدودة، القرى تحتاج إلى مدارس، ولكن لا يوجد معلمون. حتى الحقول التي اعتادت أن تفيض خضرة، لم تعد تجد من يرويها، والمعوّقات أكبر من الإرادة الفردية، والتحدي لا يمكن تجاوزه دون تدخل حقيقي من الجهات المسؤولة.
“بديع الدغيم” من ريف معرة النعمان الشرقي، قال لـ “الثورة” إنه عاد لبلدته جرجناز، لكن منزله كان مدمراً لم يجد فيه إلا بعض حاجيات بسيطة تحت ركام المنزل، يضيف بأنه افتقد لعائلته التي قضت في زلزال شباط، وكانت كل أمانيها هي العودة للمنزل والعيش فيه بسلام، لكنه استدرك بأن عزيمته قوية وهو مصر على إعادة بناء المنزل الذي يحمل ذكرياته مع عائلته وأبنائه.
ورغم كل تلك التحديات، نرصد في كل قرية وشارع عاد المهجرون إليه، إصرار على البقاء، والبناء، ودعوة لجميع المهجرين للعودة لقرارهم ومنازلهم والمساهمة في إعادة إحيائها وبنائها، يتطلعون لتأمين الخدمات الأساسية التي تمكنهم من الثبات أيضاً وهنا دور المؤسسات الحكومية والتكاتف معها.
رغم كل ذلك، لا يزال العائدون يحملون أملاً كبيرًا، فهم لا يعودون بأيدي فارغة، بل بأحلام متجددة، يحملون معهم نية الحياة، وإرادة البقاء، وتصميمًا على إعادة بناء ما تهدّم، لكن هذه الإرادة لا يمكن أن تثمر وحدها، إن لم تُقابل بدعم حقيقي وعملي من الدولة، من المنظمات، ومن المجتمع بأكمله.
أمام هذا الواقع، لا يكفي أن نُبدي التعاطف، لا يكفي أن نشارك الحزن أو ننشر الصور، المطلوب اليوم هو العمل، هو أن تمتد الأيدي لترميم ما تحطّم، أن تُفتح الأبواب أمام مشاريع الإسكان والإغاثة، أن تُعاد المدارس والعيادات، وأن يُمنح هؤلاء الناس فرصة لحياة كريمة.
الوطن لا يُقاس فقط بالحدود الجغرافية، بل بالقدرة على استيعاب من يعود إليه، على احتضان من فقد كل شيء. فكل بيت يُعاد بناؤه هو نافذة نحو ذكرى جديدة، نحو أمل جديد، نحو وطن يعترف بألم ناسه، ويمنحهم الحق في البدء من جديد.
وشهدت العشرات من مخيمات النازحين شمال غربي سوريا، موطنهم الثاني الذي لجأوا إليه، حركة عودة كبيرة لآلاف العائلات ضمن حملات عودة نظمتها فعاليات مدنية وأهلية، تشجع على ترك تلك الخيام وعدم الركون للكسل والاعتماد على الذات في البناء وإصلاح مايمكن لتمكين إعادة الحياة والبدء بمرحلة جديدة.