الثورة – حسين صقر:
من منا لا يشتاق إلى تلك الأيام الخوالي الملأى بالذكريات، أيام الطفولة والصبا والشباب، أيام كنا نهرب فيها من التزامات الأهل والعائلة وتعليماتها وقوانينها، ونتخذ من بيوت الأجداد ملاذاً آمناً، وحضناً نعتبره أدفأ من حضن الأسرة، ولكن في حقيقة الأمر مجرد هرب من الواجب.
فالأسرة الممثلة بالأب والأم والأخوة، بالتأكيد هي الملجأ الأول والأخير، ولكن لبيت الجد والجدة نكهة أخرى، ولاسيما أنه مجلس الحماية العائلي الذي يحمي من المحاسبة أثناء ارتكاب الأخطاء.
فالحنين لا يمتد إلى البيت والمسكن والنشأة، بل إلى أبناء الحارة، والقرية، وبالتأكيد لكل منا حنينه إلى الماضي البعيد.
هناك فرح قد يكون ممزوجاً بالأفراح، وما دام الحديث عن بيت الأجداد، فيخترق خيالاتنا عالم خاص من اﻷحاسيس، ولاسيما أن لذلك البيت أهمية عند الأبناء والأحفاد، كيف لا وهو ملاذ للزعلان ومطعم للجوعان، وملجأ للمتسرب والهارب والبردان والغادي والراجع، وهو محكمة قضائية لحل المشاكل العائلية ومكان للاجتماعات الودية والمناسبات الأسرية الموسعة، وهناك تستطيع ممارسة هواياتك كلها، من اللعب بالكرة في الغرف الضيقة، وللدراجة ذات الإطارين والثلاثة، والقفز على الوسائد وبناء البيوت بالفرش.
متعة الاطلاع في بيت الجد
“للتنبيش” متعة من نوع خاص، والاطلاع على تفاصيل التفاصيل متعة أكبر، وفي ذلك البيت كسر الصحن أو كأس شيء أقل من عادي، فقد انكسر الشر، و كذلك تخريب مسكات الأبواب شيء ليس غريباً أبداً، وبنظره التخريب كالبناء.
وفي بيت الجد لا مناظر للتزيين هنا أو هناك، لا تحف أو زجاجيات ظاهرة وإن وُجدت فإنها ترفع في حال حضور طفل متحرك أو عابث، أو أنها قد تحاط وتثبت بالحبال واللاصق ويتم أخذ كل الاحتياطات حفاظاً على جزء من سلامتها، لأن هؤلاء الزائرين المشاغبين لهم طرقهم بالوصول إلى الضحايا.
فيتو الجد
في بيت الجد قد يعلو صراخ العمة أو الخالة أو العم والخال، ولكن صوت الجد والجدة أعلى من صوت هؤلاء، لأن لهؤلاء حق ” الفيتو” حتى لو كان الصراخ للحفاظ على نظافة البيت وكي لا تضيع جهود التنظيف سدى.. وعبارات لا تدخلوا بأحذيتكم على سجاد البيت”!، هي مجرد أصوات خلبية.
في بيت الأجداد للتلفاز حكاية أُخرى، مفتوح معظم الوقت، وأصوات برامج الأطفال والأغاني الخاصة بها تصدح في الأرجاء، ولا أحد يسمع ما يقال كالحمام مقطوع المياه، وغطاء جهاز التحكم مفقود دائماً بسبب الأطفال العابثين المخربين، والجهاز الهضمي للريموت خارجاً.. مآخذ الكهرباء مشغولة كلها بشواحن الهواتف النقالة للكبار من الأحفاد، حتى تلك الموجودة في المطبخ منها.
أما بالنسبة للغرفة الخاصة بالعمة أو الخالة فهي مكان للاستجمام والضحك وأخذ المسحات الجمالية، نظراً لوجود المكياجات والعطور والإكسسوارات والملابس والأحذية المتنوعة ذات الألوان التي تجذب انتباه الصغير قبل الكبير، وخزانة الملابس تُستباح في حال وجود مناسبة او زيارة لأحدهم.
بيت الجد، ما أروعه، مفتوح دائماً للقاصد، ومبتسم دائماً بالرغم من أي ظرف، وبابه مفتوح في كل الأوقات متحدياً كل الظروف العابرة والصعبة، فهو مكان الألفة بالرغم من كل شيء.
في بيت الأجداد، العيد والفرح، واللمة، وفيه منابع السعادة والسرور، وفيه أحوال الحزن فإنه المكان الأفضل لتجاوز كل حزن وضيق،
يتحول إلى روضة أو منتدى
وقال السيد السبعيني -محمود الجناني- وهو جد لعدد من الأطفال من بنين وبنات: بيت الجد متسع ثمين، أياً كان شكله ومهما كان متواضعاً، فلينعم به من كان له جد، وليترحم آسفاً كل من فقده، ففي وجود بيت الجد أو الجدة تنعم الأسرة بالصلات والروابط العائلية التي ما تلبث أن تَضعف وتُضعِف بغيابه، وأنا قبل ذلك كنت حفيداً، وكانت في بيت جدي أولى خطواتي، وكان قبلة أطفال شارعنا، يجدون في جدي جدّاً لهم جميعاً، وها أنا اليوم أمارس ذات الدور، ويأتي أحفادي غالباً أيام العطل والأعياد، ويتحول البيت إلى روضة أو مدرسة أو منتدى أدبياً وحسب درجة الثقافة والدراسة ونوع العمل والاهتمام، وأنظر لهؤلاء بعين الفرح والسعادة، وأراقب كل واحد منهم وأسمع حديثه، ومنهم من أعجب به، ومنهم من ألقي له بملاحظة من دون أن أجرحه، ويحتدم النقاش حيناُ، وترتفع الأصوات والضحكات حيناً آخر.
وأضاف: تغمرني السعادة عندما أرى الفرح على وجوههم، ولاسيما عندما نلتقي أو نجتمع في مناسبة يتخللها المرح.
عطاء بلا حدود
من ناحيتها السيدة حسناء المنجد قالت: أنا كنت حفيدة وأصبحت أماً، وفي المستقبل جدة، وعندما أتحدث عن جدي تفيض دموعي، لأنني أعود بذاكرتي لأيام الطفولة، إذ ليس هناك أفضل ولا أجمل ولا أحسن من بيت الجد، جدرانه بوابته، مطبخه، رائحة الطعام وطعم المياه فيه، ففي بيت الجد لكل شيء نكهة مختلفة، لا نشعر بها في أي مكان بالعالم.
وأضافت: تشعر في بيت الأجداد بحنية كل ذلك، وخوفهم عليك أكثر من الأهل وحتى أكثر من نفسك، أنا لم أعرف جدي، لكن جدتي رحمها الله كانت تحملني على كتفيها، وأنام في حضنها الدافئ الآمن، وأذكر تلك التفاصيل جيداً، حيث عشت أياماً جميلة لا تنسى، وكنت أمارس هواياتي وشقاوتي والأشياء التي لم أستطع فعلها في بيت العائلة.
وأشارت المنجد.. عندما كنا نرتكب الأخطاء، يجب أن نهرب إلى بيت جدتي، لأنها لن تسمح لأحد أن يؤنبنا أو يضربنا، أي حماية مطلقة تكون للحفيد في بيت الجد، منوهة بأن الجد والجدة عندما قاما بتربية أبنائهما كان لديهما حجم كبير من الضغوطات والمسؤوليات، ولم يستطيعا أن يكونا بكامل عواطفهما ومشاعرهما لأولادهما، ولكن عندما يأتي الأحفاد يعوضون العطاء الذي عجزوا عن منحه لأولادهما، فبيت الأجداد عطاء بلا حدود.
الأجداد لا يموتون
وفي السياق ذاته قال الباحث في الشؤون الاجتماعية والتاريخية مرعي كحل: هناك بعيداً عن بنايات المدينة الإسمنتية التي تمتد أطرافها لتلتهم ما كان نبع ماء، وما كان حقلاً لعيدان سنابل في لون الذهب، وما كان بستانا لأشجار مورقة بالخضرة، ومثمرة بالعنب، والتين، والزيتون، والبرتقال، والليمون، يرتفع غبار الإسمنت على جميع الأشياء، وتختفي بيوت الطين التي كان أجدادنا يسكنونها ويسكن معهم الفرح والحب والعطاء، وكنا نلهو بها ونلعب، واختفت معها الابتسامات.
وقال: تلك البيوت التي كنا نهرب إليها تحت ماء المطر، وبياض الثلج، حيث تتوق الأعين لتفاصيلها، فهي إكْسير الحياة، ولا آدمية من دون تربة بنية اللون، ومن دون أنفاسهم.
وأضاف: كل ذرة من تراب بيوتهم التي تجمعنا على الحب والتعاون والألفة، ذراتها تركة من الأزمنة الضاربة في القِدم، وماء رقراق عذب، يخرج من بين صخور الإرادة.
وذكر كحل: “إن الأجداد لا يموتون” على الرغم من وفاتهم جسدياً، يظلون أحياء في قلوب وأذهان أحفادهم، وفي ذكرياتهم، وفي القصص التي تُروى عنهم إنهم يتركون إرثاً معنوياً لا يزول بزوالهم المادي، فعندما يموت الأجداد، فإنهم لا يختفون تماماً، تبقى ذكراهم حية في قلوب أحفادهم، وفي القصص والأحداث التي شاركوهم فيها.
هذه الذكريات هي ما تجعلهم “مستمرين” في قلوب من أحبوهم.
وقد يكون لهم تأثير كبير على طريقة تفكير وتصرف أحفادهم.. هذا التأثير المستمر هو ما يجعلهم “حاضرين”، يستفيدون من نصائح القيم التي تعلموها من أجدادهم.
باختصار، العبارة تؤكد فكرة أن حب الأجداد وذكرياتهم وتأثيرهم يستمر حتى بعد غيابهم، وأنهم يظلون جزءاً لا يتجزأ من حياة أحفادهم.