الثورة – رنا بدري سلوم:
كلمات قالها الشاعر سليمان العيسى عن “حزب البعث” تصدّرت ديوان الموقف الأدبيّ، تحت عنوان “ديوان البعث” من إعداد الدكتور مهنا بلال الرشيد، مختاراً ” الشعر والإيديولوجيا” ضاماً العديد من القصائد التي تغنّت بالبعث.
فمنذ أن أعلنت مجلة الموقف الأدبي إشراقها وحريّتها مع سوريا الجديدة، حتى خصصت بإصدارها الأول وإدارتها الجديدة “ثقافة البعث” عنواناً لافتاً لها، مع غلاف مميز تلفّ فيه الشرائط السّوداء رسالة الحزب “الوحدة والحريّة والاشتراكيّة”.
عدد خاص
بالفعل، يكشف للقارئ- بعيداً عن رأيه السياسيّ وإيديولوجيّة تفكيره- كيف أن الحزب قد شوّه الثقافة، ووضعها على مذبح البعث، وكيف كان السوريّون يعيشون في “جمهورية الأسد الفاضلة”، بدءاً من المرحلة الابتدائية، مروراً بالممارسات اللوجستية في المدينة الجامعية والوظيفية والوساطات في المقرات العسكرية، وصولاً إلى القمع الفكري والأدبي، والإقصاء والتهجير، وكسر الأقلام، وكمّ الأفواه وقطع الألسن، وغيرها الكثير من الممارسات التي تناولتها الدراسات والبحوث والقضايا التي كتبها متخصّصون أكاديميّون أحرار عانوا ما عانوه مع البعث، وهم اليوم يعنون ما يكتبون بمسؤوليّة وحريّة مطلقة، هادفين إلى نهضة الثقافة ليؤسّسوا مرحلة جديدة تكون علامة فارقة في تاريخ الفكر وثقافة حرّة من كل قيد وعبوديّة.
عناوينٌ شائكة مؤثّرة لقضايا كانت مغيّبة، قد أُفسح لها المجال وأزيل عنها الستار لتخرج إلى النور في عدد خاص ضمن فصول مجلة الموقف الأدبي الذي يديره الزميل محمد منصور الذي كتب افتتاحيته تحت عنوان “ثقافة فرضت بالإكراه”، إضافة إلى تخصيصه “مكتبة البعث” تحت عنوان “تاريخ الكتب الممنوعة من التداول” والتي أعدها منصور.
وسأقوم بعجالة إلى التطرق لعناوينها، بداية كانت عند كتاب “حزب البعث مأساة المولد مأساة النهاية” للكاتب مطاع الصفدي، وكتاب “الأعمال الفكرية السياسية” لكاتبه منيب الرزاز، وكتاب “البعث” للدكتور سامي الجندي، و”حزب البعث العربي” لكاتبه جلال السيد، وكتاب – قصة حياة ميشيل عفلق- بقلم زهير مارديني، وكتاب “البعث السوري تاريخ موجز” لمؤلفه حازم صاغية، وأخيراً “كتاب من الأمة إلى الطائفة سوريا في حكم البعث والعسكر” بقلم ميشيل كيلو.
من فكرة إلى ماركة السلطة
“في أربعينيات القرن العشرين، انطلق حزب البعث العربي الاشتراكي كنداء قومي يدعو إلى وحدة العرب، وحرية شعوبهم، وبناء اشتراكية تنبع من تراثهم، بدا ذلك النداء حينها أشبه بحلم جمعي لشعوب مسحوقة خرجت للتو من الاستعمار، تبحث عن ذاتها في وجه التجزئة والتبعية، فكر فيه طموح فلسفي وتنظيمي حالم أحياناً، ومغرقٌ في المثل العليا أحياناً أخرى، لكن ما الذي بقي من هذا المشروع؟!.
سؤال طرحه في بحثه الكاتب خلف علي الخلف تحت عنوان “من فكرة إلى ماركة السلطة”، فأشار إلى فعل كان حين كان البعث شعاراً قويّاً، لكن المنتج لم يكن متماسكاً، بدا البعث كماركة جذّابة على غلاف فارغ، وبهذا يمكن القول إن روح الماركة البعثيّة وجدت، نعم لكنها كانت مشروطة بغياب الأسئلة العميقة”.
الظل الطويل والهزيل
يحكي الكاتب حكايته تحت عنوان “الظل الطويل الهزيل للبعث”، فكتب ” كان يأتي إلى مقرّ خدمتنا في فرع التوجيه المعنوي التابع لوزارة الداخلية مرة كل شهر، هو مجند مثلنا، لكنه يمتلك أسباباً للتغيب وعدم الحضور كالآخرين، وفي يوم حضوره كان يرمي على طاولة محرر مجلة الشرطة المسؤول ورقتين، تتضمنان قصيدته المكرسة لمدح حافظ الأسد! أبيات مصفوفة بعناية، تحال إلى التدقيق اللغوي قبل أن تضم إلى مواد العدد.
حتى الأدباء الذين كانوا محسوبين على التنظيم الحزبي، فإنهم غادروه فرداً فرداً، بعد أن وجدوا أنفسهم في مواجهة مع عقليّة تسلطيّة، تعيد إنتاج منظومات قمعيّة لا تليق بالثائرين.
وقد لا يكون فشل البعث في إنتاج أدب حيّ ومديد نابعاً من قصور في الشعارات، بل من عزلة المنصّة عن الناس، ومن خنق الحبر حين يسكب بإذن الرقيب، فالأدب لا يولد في حضن السلطة، ولا يروى بخطابات.
بين الاصطفاف والاندثار
كتب فارس الذهبي: إن مسرحية “زفرة السوري الأخيرة” كانت محاولتي للقبض على لحظة التشقق في هذا الجدار السميك من الأكاذيب لحظة انكشاف الحقيقة ولو كان الثمن فادحاً كانت صرخة في وجه العتمة والاستلاب واستمرار التاريخ المزور بوصفه قدراً أبدياً، مؤمناً أن الرواية أو المسرحية أو الفيلم السينمائي أو المقال تستطيع أن تهدم جبلاً من الأكاذيب، وبإمكانها أن تفتح ثغرة صغيرة تضيء عتمة، تهمس بالحق وسط صخب الباطل.
جرائم البعث الثقافية
ضرب الدكتور محمد تركي الداود ثلاثة أمثلة عن مثقفين سوريين شهدت لهم الساحة الأدبية بالإبداع، أولهم القاص المبدع زكريا تامر الذي فضل السفر خوفاً على نفسه، وفي منفاه الاختياري أبدع مجموعات قصصية كثيرة نشرها في لندن وبيروت.
أما الثاني فهو الأديب الراحل فاضل السباعي- أحد مؤسسي اتحاد الكتاب العرب، الذي لم يطبع له هذا الاتحاد كتاباً واحداً، لأن النظام البائد قد صنفه متعاوناً أو متعاطفاً مع الإسلاميين في مواجهتهم معه، وقد اقتيد هذا الأديب إلى فروع الرعب عام ١٩٨٠ إثر إلقائه قصة قصيرة في كلية الآداب بجامعة حلب، وقد روى لاحقاً ما حدث معه في الفروع والمعتقلات من إهانة وتعذيب وهو الموظف المرموق والأديب المعروف.
أما الأديب الثالث، أديب سوري يمكن أن يكون مثالاً على جرائم البعث وسلطته العسكرية القمعية في الحياة الثقافية، بل القضاء عليها، إنه إبراهيم عاصي الكاتب القاص ابن مدينة جسر الشغور، الذي كانت له مساهمات أدبية منذ نهاية الستينات وحتى نهاية السبعينيات له مجموعات قصصية تحمل الطابع الاجتماعي الإصلاحي، هذا الرجل الذي اعتقل مع من اعتقل نهاية السبعينيات، وتبين لاحقاً أنه كان أحد ضحايا مجزرة سجن تدمر الرهيبة التي ارتكبها “رفعت” ومعاونه رداً على محاولة اغتيال حافظ الأسد أثناء وداعه لرئيس النيجر.
ثقافة على مذبح البعث
لا يريد الكاتب نوار الماغوط أن يكتب عن البعث، لأنه الحزب الذي كتبه في التقارير وخط ملامحه على الجدران وعلّق مستقبله في أرشيف المخابرات كما تُعلّق الفراشات الميّتة في متاحف الحشرات! لم تولد طبقة مثقفة حرّة بنظر الماغوط، بل ولدت طوابير من الموظفين، بربطات عنق وأفواه مكمّمة، يحملون الشهادات كما تحمل تصاريح المرور، تمجد القائد وتردد خطاباته.
تحليل نفسي لحقبة متأزّمة
تحت هذا العنوان فرد الدكتور أحمد عسيلي مقاله العميق في آلية تشكيل العقول واعتماد السلطة في خطابها الكلي، ومن ضمن ما تحدّث به أن السوري مهما كانت درجة ثقافته يعرف أن معظم ما يصاغ مكرر، وكثير مما يردد متشابه أو بلا معنى، لكنه كان مضطراً للإصغاء إليه أو لترديده، لأن نجاته بالإصغاء أو الترديد.
فولار مدرسي!
ويعود بنا الكاتب عبد السلام الشبلي إلى المرحلة الابتدائية تحت عنوان” فولار مدرسي بائس، بقايا طلائع البعث، معسكرات تدجين الطفولة”، فكتب أصبح السوري منذ الطفولة.. بعثياً بالضرورة.. ترسخت في حياته فكرة الولاء للبعث ومن خلفه الولاء الأكبر للأسد الأب والابن ومن ثم العائلة.
في مرحلة “البعث” لم يكن كثير من السوريين يختارونه حزباً وانتماءً عن قناعة ويقين، وإنما طريقاً شبه إجباري فرضه النظام، للوصول إلى وظيفة في الدولة أو منصب، فكان الانتساب شرطاً لذلك ولم يكن خياراً أو ترفاً.