الثورة – إيمان زرزور:
في وقت تواجه فيه سوريا تحديات بيئية ومناخية متزايدة، تشكّل الثروة الحراجية أحد أهم أصول البلاد الطبيعية، ليس فقط من حيث غناها النباتي والجمالي، بل بوصفها خط الدفاع الأول في مواجهة التصحر وتغيّر المناخ، ومصدراً حيوياً للتوازن البيئي والحياة البرية.
ومع ذلك، تتعرض هذه الثروة اليوم لواحدة من أسوأ الكوارث، نتيجة موجات الحرائق التي طالت مئات الهكتارات من الغابات، لا سيما في ريف محافظة اللاذقية. تمتد الغابات السورية على مساحات تقارب 450 ألف هكتار، أي ما نسبته 2.4% من إجمالي مساحة البلاد، وتتركز بشكل رئيسي في المناطق الساحلية، كريف اللاذقية وطرطوس، إضافة إلى أجزاء من ريف حمص وريف حماة، وتضم هذه المساحات تنوعاً نباتياً فريداً، من أشجار الصنوبر والسنديان والبلوط، إلى الشجيرات العطرية والنباتات الطبية. تمثل هذه الغابات “مخزناً طبيعياً للكربون، تمتص ملايين الأطنان من ثاني أكسيد الكربون سنوياً، ومنظماً للمناخ المحلي، يخفف من درجات الحرارة ويوازن الرطوبة الجوية، وموئلاً للحياة البرية، حيث تؤوي الطيور، والزواحف، والثدييات النادرة، كما أنها مصدر رزق للمجتمعات المحلية عبر الحطب والفحم النباتي والأعشاب الطبية، وحاجزاً طبيعياً ضد الانجراف والتعرية في المناطق الجبلية.
خلال الأسبوع الفائت، اشتعلت سلسلة من الحرائق الضخمة في غابات ريف اللاذقية، ما أسفر عن تدمير أكثر من 3,500 هكتار من الغابات الطبيعية والمشجرة، وفق تقديرات غير رسمية، ورغم تدخل فرق الإطفاء والدفاع المدني، وتعاون السكان المحليين، فقد ساهمت الرياح الشرقية الحارة، وانخفاض الرطوبة، وصعوبة التضاريس، في توسع رقعة النيران بسرعة.
ومن أبرز الآثار الناتجة عن هذه الكارثة “فقدان آلاف الأشجار المعمرة، بعضها يعود لأكثر من 100 عام، وتدمير الموائل الطبيعية لعشرات الأنواع الحيوانية والنباتية، وتصاعد انبعاثات الكربون، ما يزيد من حدة تغير المناخ، وانجراف التربة وتدهور الغطاء النباتي في المناطق المحترقة، وتهديد مصادر المياه الجوفية والينابيع نتيجة تصحر التربة، ونزوح بعض التجمعات السكانية الريفية بفعل امتداد النيران قرب منازلهم.
تتعدد أسباب الحرائق بين الطبيعي (ارتفاع الحرارة والاحتباس الحراري) والبشري (الإهمال، الحرق الزراعي، أو إشعال متعمد)، ويعزو بعض الخبراء تكرار الكارثة إلى ضعف منظومة المراقبة المبكرة، وغياب آليات فعالة للردع والمحاسبة، إضافة إلى تدهور البنى التحتية الخاصة بالإطفاء، خاصة في المناطق الجبلية المعزولة. تشير دراسات بيئية إلى أن إعادة ترميم الغطاء الحراجي المحترق في اللاذقية قد يتطلب عدة أعوام، شريطة توافر تمويل كافٍ، وخطط تحريج مدروسة، ومشاركة مجتمعية واسعة.
وتبرز الحاجة إلى “إطلاق حملات تشجير جماعية وفق نهج علمي، ومنع البناء والتعديات في المساحات المتضررة، وتحديث منظومات الإنذار والإطفاء السريع، وسن قوانين صارمة تردع المتسببين في إشعال الحرائق، ودمج المجتمعات المحلية في جهود حماية الغابات ومراقبتها.
وبالتأكيد اليوم، تعتبر حرائق ريف اللاذقية إنذار بيئي على مستوى وطني، فالغابات لا تنتمي فقط إلى سكانها، بل تمثل رئة بيئية لسوريا بأسرها، وأمام تكرار هذه الكوارث، تصبح حماية الثروة الحراجية مسؤولية جماعية، تتطلب تكاملاً بين الدولة، والمنظمات البيئية، والمجتمع المحلي، لإنقاذ ما تبقّى من هذا الإرث الطبيعي المهدد بالزوال.