الثورة – إيمان زرزور :
في مجتمعٍ يشتهر بكرمه وتقاليده الراسخة، لم تعد بعض العادات الاجتماعية مصدر فخر كما كانت، بل تحوّلت إلى أعباء ثقيلة تُرهق العائلات، وتُفاقم من معاناة الناس في ظل أزمة اقتصادية خانقة، ما كان يُمارس بدافع المحبة والتكافل، بات اليوم سباقاً للمظاهر، يتجاوز القدرة ويتنافى مع الحاجة.
في طليعة هذه العادات تبرز حفلات الزواج، التي فقدت معناها الحقيقي كمناسبة لبناء أسرة جديدة، وأصبحت في كثير من الأحيان عرضاً اجتماعياً للاستعراض، فالمهور باتت تُحدد بغير منطق، والذهب يُطلب بكميات لا تتناسب مع القدرة، وكأن قيمة المرأة تُقاس بعدد الحُلي.
أضف إلى ذلك تكاليف الصالات، والطعام، والتصوير، لتتحول “الفرحة” إلى كابوس مالي يُثقل كاهل الشاب وأسرته، ويؤجل مشروع الزواج إلى أجل غير مسمى.
الولائم، سواء في الخطوبة أم الزفاف أم حتى في مناسبات الحزن، لم تعد تعبّر عن كرم أو تواصل إنساني كما في الماضي، بل غدت معياراً لما يُسمى بـ”الواجب الاجتماعي”، عائلات تُنفق ما لا تملك، خوفًا من التعليقات، ورغبة في تجنب “كلام الناس”، فقط لينالوا الرضا الاجتماعي. والنتيجة؟ ديون، وضغوط، وتفكك داخلي صامت.
الهدايا التي تُقدَّم في الأعياد والمناسبات فقدت طابعها العفوي، وصارت عبئًا يُقاس على أساسه مستوى الود، لا القدرة.
الكل يُهدي الكل، حتى وإن لم يكن قادراً، خوفاً من أن يُفهم اعتذاره على أنه تقصير أو قطيعة.
حتى الزيارات، التي كانت سابقاً مناسبة للتواصل والمحبة، تحولت إلى التزام ثقيل. يُجبر الناس على المجاملات والمناسبات دون رغبة، لأن الغياب عنها يُفسَّر كإهانة أو تقصير، لا كظرف أو خيار شخصي.
رغم وضوح آثارها السلبية، تستمر هذه الممارسات تحت وطأة عدة عوامل منها “ضغط المجتمع والخوف من الأحكام المسبقة، ربط الكرم بالمبالغة والتكلّف، التفاخر والتقليد الأعمى، فقدان الجرأة على كسر النمط السائد.
ولهذه الظاهرة نتائج خطيرة أبرزها استدانة أسر بأكملها لتمويل الأعراس أو الولائم، نزاعات أسرية بعد الزواج نتيجة الإنفاق المفرط، شعور الفقراء بالعجز والتهميش في مجتمع يستعرض، وتآكل قيم التضامن الحقيقي لحساب مظاهر جوفاء.
ما أحوجنا اليوم إلى مراجعة شجاعة لعاداتنا، نفرّق فيها بين الكرم الحقيقي والتكلف الضار، بين الأصالة والتقليد الأجوف، فالمجتمع الذي يعيش على المظاهر سيفقد تدريجياً جوهره، وقد يستفيق يوماً ليجد نفسه غريباً عن ذاته.
التحرر من هذه الأعباء لا يعني الانسلاخ عن تراثنا، بل يعني العودة إلى معانيه الأصلية: المحبة، التراحم، والبساطة، فلنربِّ جيلاً لا يخجل من أن يكون بسيطاً، حقيقياً، ومتزنًا.. جيلاً لا يعيش ليُرضي الناس، بل ليعيش حياة كريمة، على قدر استطاعته، ووفق معايير إنسانيته.